كان لي صديق اشتد عليه مرض الكبد حتى تغير شكله ،ونحل جسمه، ودنت منيته…
وكان يقيم بالقاهرة مع أسرته بينما يقيم والداه في الأقاليم..
وكان أن أخفى عن والديه أمر استفحال المرض حتى لا يتألمان لمنظره، فيصيبهما من الغم ما لا يريد…فيكون قد عقهما بإيجاع قلبيهما عليه!!
وكان يختلق لهم أسبابا في كل مرة تمنعه من السفر إليهما…
وكان في كل مهاتفة يمازحهم ويلاطفهم، مع أنه كان يخفي وراء الملاطفة كماً من الألم لا تطيقه الجبال.
وظل على هذه الحال حتى ليلة وفاته حيث تحرك قلب والديه، ولم يعد يروق لهما ما يقدمه من أعذار، فسافرا القاهرة فجأة وأدركاه قبل موته بساعات..رحمة الله عليه.
تذكرت هذه القصة وأنا أستمع لشابين حديثي الزواج يذهبان كل يوم لوالديهما بمعركة جديدة، وقضية أشد..
فاليوم معركة من أجل أمر تافه، وغدا من أجل أمر أتفه..
فقلت لهما: ليس كل العقوق كلمة أف!!
فهناك نوع من العقوق الذي لا يلتفت إليه كثير من شبابنا اليوم أشد ألف مرة من رفع الصوت، أو قلب الوجه..
تحميلهم من الهموم ما لا يطيقون من أجلك… عقوق!!
رمي أولادك عندهم بالساعات كل يوم بينما أعمارهم لا تتحمل الجري وراء صغار، أو تحمل صراخهم لساعات طويلة، أو تخليصهم من المعارك التي لا تنتهي… عقوق!!
نقل السخافات اليومية التي تحدث بينك وبين زوجك وقد كنت قادرا على أن تريح عقولهم المجهدة وقلوبهم المشفقة… عقوق!!
كان بعض سلفنا الصالح يتلوى من الألم فإذا علم بمقدم أمه عدل من هيئته، وتصنع بسمته، وابتعد عن فراشه،وأحسن استقبالها ووداعها… فلما عوتب في ذلك قال:
أخاف أن تتوجع لمرضي فأكون قد آذيتها!!
البر الحقيقي بر قلوب لقلوب…
البر الحقيقي أن تشفق على قلب أبويك من الوجع، وعلى نفسيهما من الألم، فتكتم أمرا، أو تخبئ خبرا، أو ترسم وجها باسما على جسد مرهق مخافة أن ينام والداك أو أحدهما مغموما إن استطاع أن ينام!!
فبر الدفع قبل بر البذل..
أما ألا تترك لوالديك مساحة استجمام بحياة، أو استرواح بطاعة، أو استعداد للآخرة لكثرة ما تسكبه من أوجاع على قلوبهم الهشة،فهذا لعمري أشد ما يكون من عقوق لو كنت تعلم..
سمعت هذه الأنات من آباء وأمهات فصغتها في هذه الكلمات… فهي منهم لا مني.
وليت الذين لا ينفكون عن أعمال الطفولة يعلمون ذلك..
استلق على صدر والديك إن أردت بالساعات…لكن انزع الأشواك قبل الاستلقاء…فأجسامهم وقلوبهم الضعيفة لم يعد لها طاقة بأشواكك.