لا يَدر المَرءُ ما هي العُمر الفّارقَة في مجرى حياته، فلعلها في مُستَهل الغُر الريعَاني، وقد تتجلي في زخم العقد الأربعيني أو الخمسيني، ولا غرو أن يبلغ المرء سنَام مجده ومرَام أوجهِ في المنتهى الستيني أو السبعيني ……
أحدثكم عن التي عقلتها بقريحة راسخة، عن أولئك الرواسي في القرون السالفة، الذين امتطوا صهوة الأمجاد العالية، بشدة بأس في سنين اليأس الفّارقة…
وقبل الولوج في الثنايا أُدَبج هَاهنا خاطرتين للعنونة والسردية… ويرحم اللهُ أبا فراس الحمداني قائلاً : ما العمر ما طالت به الدُهور – العُمر ما تم به السُرور…
وطوبى لامريء خط ببنانه أو تفوه بلسانه : ليست العبرة بمن سبق وإنما بمن لحقَ وصَدق….
إنها لحظة في مُنعَطفٍ في بُرهةٍ بدّدَت اليأس ، فألهّبت الحمية والبَأس ، فتوجتهم ضراغم وليوث وأماثلَ لا يُشَقُ لهُم غُبار….
وكان الإسلام وصدق النية والهمة، عناوين سامقة لمتون المجد الوَارفة…..
أسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو ابن ست وأربعين سنة، فكان هذا العمر هو بادرة رحلة أعظم قائد عسكري في التاريخ الإنساني، وسيف الله المسلول ، الذي لا يفري أحدٌ فريه في القتال، ولا يبلغ مده ولا نصيفه آلاف الرجال، لكن ماذا لو لم يُسلم خالد؟ لترذل في دون الناس لا ذكر ولا فخر ولا نثر ولا شعر..
وعمرو بن العاص يطرق باب المجد بوشاح الإسلام في عُمر سبعٍ وخمسين سنة، فيجعله الله من الفارقين في شيوع الدين المُبين… مُحطماً صنم سواع، فاتحاً مصر ، فاتحاً فلسطين، فاتحاً سلطنة عُمان… تُرى لو لم يُسلم عمرو بن العاص؟ لانضوى في أسفل دركات أفناء الناس خامل الذكر مجهولاً…
وكان ثلاثة من الصحابة قد بلغوا ستيناً وهم برداء الكفر، حسان بن ثابت وحكيم بن حزام وحويطب بن عبدالعُزى، ليبلغوا ستيناً مثلها في ظل الإسلام، أي أن حياتهم الحّقَة بدأت عند محطة الستين، فقد عاشوا شطرين متساويين، لكن بون شاسع بين الكفر والإيمان، والإيمان قد ترسخّ في شطر حياتهم الثاني،،
كذلك سنا برق صلاح الدين في فتح بيت المقدس على إثر موقعة حطين، وهو ابن تسع وأربعين سنة..
وكذلك ألب أرسلان نجماً فاتحاً رابط الجأش في حواشي الأربعين، عندما قاد السلاجقة لدحر الروم في ملاذكرد 1071م ..
وأعجب مما سبق موسى بن نصير يتمم فتح الأندلس وهو ابن نيفٍ وسبعين سنة…
والأشد عجباً هو يوسف بن تاشفين الذي طنّت بذكره ثرى الأندلس، وضنّت بإرثه أمجاد المسلمين في الأندلس، وقد تضرمت حميته القتالية قائداً للمسلمين في معركة الزلاقة 1086م ، وهو يوم ذاك على مشارف الثمانين من العُمر….
ثم لا يتهوك المرء في عاقبة حاله ومآله، فلعله يكون أعظم ممن سبقوه أكانوا زُرافاتٍ أم وحداناً…
أسلم عمر بن الخطاب بعد أخيه زيد بن الخطاب ، وأسلم خالد بن الوليد بعد أخيه الوليد بن الوليد ، وأسلم عمرو بن العاص بعد ابنه عبدالله بن عمرو بن العاص، وأسلم أبو هريرة بعد كثير من بني قومه قبيلة دوس، بل إنه أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم عاماً ونيف، ومع ذلك مكنته همته القعساء التي تأبى الانزواء ، من بلوغ أكبر نصاب بين جموع الصحابة في حفظ الأحاديث النبوية دراية ورواية…
وكان عثمان ذي النورين أسير تيه ظلمات الجاهلية حتى أربع وثلاثين سنة، عندئذ استقل سفينة الإبحار في مياه الخير والبر، الجود والحياء ، فبلغ من حظوة المقام حداً لا يُدرك فكانت تستحي منه ملائكة السماء….