.
نعلم جميعا أن الأطباء يطالبون منذ سنوات بإقرار قانون -علمى وليس جنائى- للمسئولية الطبية، وقد سبق للنقابة أن تقدمت منذ سنوات بمشروع قانون متكامل أسوة بالدول الأخرى، إذ أن استمرار محاسبة الأطباء بقانون العقوبات فى قضايا المهنة هو أمر لم يعد يحدث فى دول العالم التى تحرص على منظومتها الصحية، حيث أن الغرض ليس الإنتقام وإنما الحد من نسبة حدوث الأخطاء وحصول المريض على حقه دون وقوع ظلم على الطبيب.
.
وبالتالى فإن فلسفة أى مشروع قانون للمسئولية الطبية من المفترض أن ترتكز على وجود لجان علمية تدرس الموضوع وتفرق بين الأخطاء الطبية الوارد حدوثها طبقا لنوع المرض وبين الجريمة الطبية وهى ما يطلق عليها الإهمال الجسيم، فالأخطاء الطبية الوارد حدوثها لا يجوز حبس الطبيب فيها بل يتم التعويض عنها ماديا حيث أن الطبيب كان يسعى بالضرورة لنفع المريض، أما الجرائم الطبية مثل العمل دون ترخيص أو إتخاذ إجراء غير قانونى أو إجراء تجارب على المرضى فى غير حالات التجارب السريرية فهى التى يطبق فيها قانون العقوبات ويتم الحكم فيها بالحبس وخلافه طبقا لفداحة الجريمة.
.
ومن المعلوم أن وضع القانون بهذه الطريقة العلمية سيكون أمرا إيجابيا للمريض والطبيب والمنظومة الصحية، فحال وجود خطأ فإن المريض سيحصل على التعويض المناسب من شركة تأمين أو صندوق يلتزم كل طبيب بالإشتراك فيه ودون الحاجة لقضاء سنوات طويلة فى أروقة المحاكم، والطبيب لن يتم التعسف معه وبالتالى سيعمل لصالح المريض بدون أيدى مرتعشة، والمنظومة الصحية ستستفيد من عدم لجوء بعض الأطباء لمنظومة الطب الدفاعى بالامتناع عن علاج بعض الحالات المعقدة أو ازدياد وتيرة هجرتهم خوفا من سيف الحبس المسلط على رقابهم.
.
لكن للأسف فوجئنا بوجود نص مشروع قانون للمسئولية الطبية يتم تداوله تمهيدا لتقديمه للبرلمان، وهذا المشروع ينسف الفلسفة الأساسية التى ننتظرها لتحقيق الأهداف المنشودة، فنحن لا نبحث عن مجرد مسمى أوعنوان ولكننا نبحث عن المتن الذى يحقق الأهداف لصالح الجميع.
.
فمشروع القانون لم يمنع الحبس فى الأخطاء الطبية، فهو يسمح بالحبس الإحتياطى بقرار من رئيس النيابة (المادة 17)، كما أنه أيضا يسمح للمحكمة بتوقيع عقوبة الحبس (المادة 16)، وبالتالى فهو يفرغ القانون تماما من أغراضه، كما أن هذه العقوبات ليست بمفردها ولكنها يمكن أن تكون مضافة لأى عقوبات أخرى أشد مقررة بموجب أى قانون آخر (المادة 13)، وبالتالى فالطبيب سيكون خاضع لعقوبات هذا القانون الجديد بالإضافة لإمكانية خضوعه لمواد قانون العقوبات القديم طبقا لتوصيف الإتهام فيزداد الأمر سوءا.
.
يضاف لذلك عدم شمول مشروع القانون للجان طبية يتم اللجوء إليها لدراسة المشكلة وتوصيفها علميا قبل الإحالة للجهات القضائية، ولكن فقط سيتم إعداد جدول بالأطباء الحاصلين على الدكتوراه منذ عشر سنوات بكل تخصص حتى يستعين بهم الطب الشرعى أو جهات التحقيق فى إبداء الرأى الفنى، والمشروع حتى لم يلزم الطب الشرعى أو جهات التحقيق بطلب الاستعانة بهم كما لم يلزمهم بالأخذ برأيهم الفنى، وبالتالى فلن ننتظر تغيرا ملموسا عن الوضع القائم حاليا.
.
أما بخصوص حماية الأطباء من الإعتداء عليهم أثناء تأدية عملهم، فالعقوبات الواردة بالمشروع غير كافية على الإطلاق ولا تحقق الردع المطلوب، فعقوبات التعدى بالقول أو التهديد عقوبتها الحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر (أو) غرامة لا تزيد عن عشرة آلاف جنيه، أما عقوبات التعدى بالقوة والعنف فعقوبتها الحبس مدة لا تزيد عن سنة واحدة (أو) الغرامة التى لا تتجاوز عشرين ألف جنيه، ولن يكون الحبس وجوبى إلا تم استخدام عصى أو أسلحة فيكون الحبس مدة لا تقل عن سنة (المواد 14 و 15).
.
بالطبع هناك ملاحظات تفصيلية أخرى مثل وجوب أن يجرى العملية الجراحية طبيب متخصص ووفقا للمزايا الإكلينيكية مع العلم بأن نظام المزايا الإكلينيكية لم يتم تطبيقه بشكل رسمى بمصر حتى الآن فكيف سنحاسب الطبيب وفقا لنظام غير موجود أصلا (المادة 6)، ومثل إلتزام الطبيب بإجراء الجراحة فى منشأة مهيأة تهيئة كافية لإجراء الجراحة ويتم توقيع عقوبات عليه حال مخالفته ذلك طبقا للمادة (16) وسيتم فقط إضافة المسئول عن إدارة المنشأة لذات العقوبة (أى أن الطبيب لن يتم حتى إعفاءه من العقوبة إذا كان التقصير من جهة العمل) وبالتالى سيكون على الطبيب المعالج التأكد بنفسه من تمام جميع التجهيزات وهذا مستحيل عمليا وكان من المفترض أن تكون العقوبة هنا على الإدارة فقط، وأيضا مثل عدم السماح بخروج المريض من المستشفى إلا بعد تمام الشفاء (مادة7) ومن المعلوم أن المريض يخرج عند تحسن حالته ليكمل العلاج بالمنزل ولا يبقى بالمستشفى لحين تمام الشفاء لأن هذا ضار به علميا، أما بخصوص ما ورد بالمشروع عن إنشاء صندوق تأمينى لتغطية التعويض المالى ويلتزم الأطباء بالاشتراك فيه فهذا لن يكون له قيمة عملية طالما بقيت عقوبات الحبس كما هى، لأن معظم الأطباء سيضطرون للاستجابة للابتزاز المالى خوفا من عقوبة الحبس قبل حتى أن يصدر حكما بالتعويض.
وفى الحقيقة لا أود الاسترسال فى ذكر تفاصيل الملاحظات على كل مادة من مشروع القانون، حيث أن مشروع القانون يجب أولا أن يلبى الحد الأدنى المطلوب فى الأمور الجوهرية قبل أن ننتقل لمناقشة الأمور الفرعية، فجوهر القانون يجب أن يرتكز على إلغاء عقوبة الحبس فى الأخطاء الوارد حدوثها (سواء حبس احتياطى أو قضائى) مع ضرورة وجود لجان علمية لتوصيف المشكلة، ودون ذلك فلن يكون هذا هو المشروع الذى ننتظر منه أن يحقق تغيرا للأفضل فى منظومة ممارسة الطب فى مصر.
.
أما إذا كانت وزارة العدل ترى وجود شبهة عدم دستورية فى إلغاء عقوبة الحبس وترى ذلك تمييزا بين المواطنين كما توارد منذ سنوات، فنطلب منها مراجعة حكم المحكمة الدستورية بالقضية رقم 19 لسنة 8 قضائية دستورية لسنة 1992، فقد جاء ملخص حكمها بأن صور التمييز التي تعنيها المادة (53) من الدستور تقوم على أساس عدم جواز التمييز بين المواطنين الذين تتساوى مراكزهم القانونية، وأن مبدأ المساواة أمام القانون لا يعنى معاملة فئات المواطنين على ما بينها من تفاوت فى مراكزها القانونية معاملة قانونية متكافئة.
ولعنا نعلم جميعا أن المراكز القانونية تختلف بين الإصابة والقتل الخطأ نتيجة تدخل طبى كان يسعى بالضرورة لنفع الإنسان، ويبن الإصابة والقتل الخطأ نتيجة أى سبب آخر (مشاجرة – حادث سيارة – إنهيار منزل … وخلافه)، وبالتالى فلا نرى وجود تمييز أو عدم دستورية.
.
فى النهاية ننتظر أن تقوم نقابة الأطباء بالتواصل العاجل مع وزارة العدل ورئاسة مجلس الوزراء والقيام باتخاذ جميع الإجراءات من أجل عدم عرض مشروع القانون المشار إليه إلا بعد أن يفى أولا بالجوهر المطلوب لصالح المريض والطبيب والمنظومة الصحية، وحتى لا يصبح مستقبل الطب أشد إيلاما من الواقع.