توقفت فى إحدى الاستراحات تقع على الطريق بين ولايتى نورث كارولينا وفيرجينيا. طلبت قهوة ووقفت أمام الكاشير لدفع الحساب. فى الطابور الطويل لاحظت أن أحد الأشخاص من أصحاب البشرة السمراء أمثالى ينظر لى مبتسمًا. شعرت أن دم القارة السمراء «بيحن». عرض عليّ الرجل أن يدفع الحساب عني، ولكن لأنى كنت أنا الأقرب فى الدور للكاشير منه دفعت أنا لى وله. فامتن الرجل وجلسنا سويًا نحتسى القهوة الأمريكاني، قدمت له نفسى وكذلك فعل. عرفت أنه من دولة إريتريا لكنه هاجر إلى أمريكا منذ سنوات طويلة بعد أن حصل على بكالوريوس طب وجراحة الأسنان من بلاده.
وإريتريا هى دولة فى القرن الأفريقى، عاصمتها أسمرة ويحدها السودان من الغرب وإثيوبيا من الجنوب، وجيبوتى من الجنوب الشرقى. ولدى إريتريا عند الأجزاء الشمالية الشرقية والشرقية منها خط ساحلي واسع على طول البحر الأحمر. وإريتريا دولة حزب واحد ولم تجر فيها انتخابات تشريعية وطنية منذ الاستقلال ١٩٩٤. وسجل حقوق الإنسان فيها من بين الأسوأ فى العالم. ولأن جميع وسائل الإعلام المحلية مملوكة للدولة، فقد صُنفت إريتريا أيضًا على أنها تملك ثانى أقل حرية صحافة فى مؤشر حرية الصحافة العالمى، لا يتفوق عليها سوى كوريا الشمالية فقط.
دار بينى وبين الدكتور ابراهيم الارترى حديث طويل فى كل ما يخص القارة السمراء من قضايا مشتركة فى السياسة والاقتصاد. وكان الرجل يتمتع بخفة دم تلقائية خاصة عندما كان يحاول التحدث باللغة العربية والتى هى احدى اللغات الرسمية لإريتريا. لفت نظرى أن الرجل يرتدى بالطو العمل وعرفت أن المستشفى الذى يعمل به قريب من تلك الكافتيريا وهو يفضل كل يوم تناول القهوة فيها خلال وقت استراحته. ووجدتها فرصة لسؤال يؤرقنى كثيرًا عن سر ارتفاع تكلفة علاج الأسنان ليس فى أمريكا فقط بل فى العالم كله. قلت له إن فى مصر على سبيل المثال كلما سألت طبيب أسنان عن السبب تعلل بارتفاع تكلفة استيراد الأجهزة الطبية والمواد الخام المستخدمة فى علاج الأسنان، فما هو عذر أطباء الأسنان فى أمريكا مثلًا وهى لا تستورد بل تصدر؟ فهمت منه ما معناه أن هذه الأسعار المرتفعة أصبحت ثقافة طب الأسنان وقال إن تكلفة زراعة السنة الواحدة تصل إلى خمسة آلاف دولار دون أى داع!. تذكرت حوارًا دار بينى وبين طالب جامعى تركى كان يدرس فى سان دييجو بكاليفورنيا عن نفس الموضوع حيث قال لى إنه عندما يريد علاج أسنانه يقطع تذكرة ويسافر إسطنبول حيث رغم التكلفة والجهد تظل أرخص من العلاج داخل أمريكا.
قلت للدكتور ابراهيم الإريترى مداعبًا: لماذا لا تبدأ بنفسك وترخص الأسعار؟! فضحك قائلًا: فعلتها ووجدت نفسى قد دخلت فى سين وجيم حيث تعاطفت مع مريض شعرت أن حالته المادية «على قدها» وطلبت منه ٢٠٠ دولار عن علاج تكلفته ٥٠٠ دولار فإذا بالمريض يشك فيّ ويسألنى هل أنا طبيب أسنان فعلًا أم لا بل وطلب أن يطلع على الشهادة!. ومن تلك اللحظة أقلعت عن هذا التصرف!
طبعًا تصرف المريض الأمريكى ليس ذريعة لأطباء الأسنان ليستمروا فى ذبح المرضى، وأتمنى أن يتبنى أطباء الأسنان فى بلادنا وجميع بلاد العالم الدعوة للرحمة بمرضى الأسنان وألا يبالغوا فى الأسعار فليس من المنطقى أن نظل نحن كمرضى نسدد فى كل مرة نذهب فيها لطبيب الأسنان ثمن تكلفة كرسى اشتراه الطبيب مرة واحدة.
الرحمة حلوة والله.