“عرين الأسود” بات المصطلح الأكثر شهرة في الشارع الفلسطيني ووسائل الإعلام خلال الأشهر الماضية، مع تصاعد العمليات النوعية التي ينفِّذها مقاوموها ضدَّ جنود الاحتلال “الإسرائيلي” ومستوطنيه في الضفَّة الغربية المحتلَّة، تحديدًا بمدينة نابلس. وشكَّلت مجموعات “عرين الأسود” تحوُّلًا نوعيًّا في أداء المقاومة الفلسطينية في الضفَّة الغربية من حيث شموله لنواحٍ عديدة، وبحالة فريدة خرجت عن النسق المألوف، فيما تصدر بياناتها إلى الجمهور عبر تطبيق تليجرام. وتحظى “عرين الأسود” بحالة دعم ومساندة شعبية كبيرة جدًّا، كونها أصبحت المجموعة التي تصنع الأخبار اللحظية بعد موجة عمليَّاتها الأخيرة ضدَّ قوَّات الاحتلال والمستوطنين، لا سيما وأنها باتت تنشط في العديد من مدن وبلدات الضفَّة وخاصة في البلدة القديمة بمدينة نابلس. وفي ظلِّ تنامي مجموعة “عرين الأسود” في نابلس؛ ضاعفَ الاحتلالُ من التحريض عليها، وطالب السلطةَ بأن تقوم بدورها في “ضبط الحالة الأمنية” مهدِّدًا بإعادة اجتياح المدينة.
نشأة “عرين الأسود”
كانت نابلس تشهد تجمُّعًا لعدد من المقاومين من أبناء المدينة وقُراها يتمركزون في البلدة القديمة منها، وقد بدأ الحديث عنهم في وسائل الإعلام وفي الشارع بعد اعتقال الاحتلال للشخصية الأكبر عمرًا ووزنًا فيهم “عبد الرحمن شاهين” بعملية خاصة غابت عن المدينة منذ سنوات، وذاع صيتُ المجموعة المسلَّحة في فبراير 2022 بعد أن اغتال الاحتلال الإسرائيلي ثلاثة شبَّان من البلدة القديمة هم (أدهم مبروكة ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط)، وكانوا ضمن نواة بدأت بتنفيذ عمليات إطلاق نار في محيط نابلس وقد نجا من محاولة الاغتيال العضو الرابع في المجموعة “إبراهيم النابلسي”، نتجَ عن ذلك توسعةُ دائرة المجموعة وانضمَّ لها عددٌ أكبر من المطارَدين من فصائل ومناطق مختلفة.
وقد نشأت عرين الأسود كنتيجة للمواجهات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية، وتحديدًا في نابلس التي تعتبر مقرًّا للمجموعة. تتميَّز هذه المجموعات بأنها تَسَامَتْ على الانقسام السياسي الفلسطيني، ولا تُعَدُّ تابعةً لأيِّ فصيلٍ من الفصائل، إلَّا أنها تقبل ضمن صفوفها أفرادًا نشطين تحت فصائل أخرى. قام بتأسيس المجموعة كلٌّ من: (محمد العزيزي – كميل عبادي – إبراهيم النابلسي – عبد الرحمن صبح – مصعب اشتية). وتعود نواة التشكيل إلى كتيبة نابلس والتي تشكَّلت في أوائل 2022 أسوة بكتيبة جنين، وهدفها كان قيادة وتنظيم مرحلة الاشتباك والمواجهة مع القوَّات الإسرائيلية في كلٍّ من نابلس ومخيم جنين.
وفي تعريفها تعتبر مجموعة عرين الأسود نفسها مجموعةً مسلَّحةً عابرةً للفصائل، وأعضاؤها اجتمعوا على المقاومة ومواجهة الاحتلال، وقد شارك في العرض العسكري عشرات المسلَّحين بشعارٍ ولباسٍ واحد. بعد إعلانها وتبنِّيها عمليات نوعية في الضفَّة الغربية ركَّز الاحتلالُ في إعلامه على ربط المجموعة بحركة حماس، حيث صدرت العديد من التقارير التي تربط المطارَد القسَّامي مصعب اشتية في تشكيل المجموعة وتمويلها وخروجها إلى النور، وقد اتهم الإعلام العبري “مصعب اشتية” بتمويل المجموعة بأكثر من مليون دولار أمريكي وشراء سلاح ومعدَّات قتالية وذخيرة، بالإضافة إلى مساعدات مالية للمطارَدين. في 19 سبتمبر 2022 اعتقلَت قوة خاصة من الأجهزة الأمنية الفلسطينية المطارد مصعب اشتية وحوَّلته فورًا إلى سجن أريحا، على إثر ذلك اندلعتْ مواجهاتٌ واسعةٌ في مدينة نابلس بين الشرطة والمتظاهرين استُشهد فيها مواطن فلسطيني وأُصيب آخرون، واستمرَّت المواجهات يومين إلى حين الاتفاق بين مؤسَّسات المدينة والسلطة على وقْفها مقابلَ التعهُّد بالإفراج عن مصعب اشتية وهذا ما لم يتم
بيان الانطلاق
في 2 سبتمبر 2022، وأثناء تأبين الشهيدين محمد العزيزي (أبو صالح) وعبد الرحمن صُبح، خرج مقاتلو “العرين” بكامل عدَّتهم وعتادهم في صورةٍ منظَّمة. كما أُعلن ميثاق العرين وبرنامجه المقاوِم على لسان أحد الملثَّمين، ليكْشف “أن دماء الشهيدين محمد العزيزي (23 عاما) مؤسِّس العرين “المشتبك المخفي”، ورفيقه عبد الرحمن صُبح “أسد الاشتباكات” التي سالتْ بين أزقَّة البلدة القديمة كانت الجذوة والصحوة التي أحْيت روحَ المقاومة المتجذِّرة فيها أصلًا”
وأكَّد البيان أن غطرسة الاحتلال بقتل وسفك دماء الفلسطينيِّين تفرض عليهم كمقاومين “معارك متجدِّدة” قد لا يتوقَّع الاحتلال شكلَها ولا يقرأ طبيعتَها مسبقًا، خاصةً أن هذه المقاومة “المنظَّمة والمدارة ذاتيًّا” قادرةٌ كلَّ يومٍ على تجديد الدماء بعروق المقاومين بأشكال وأساليب كثيرة”.
وتبنَّت المجموعة نهجًا يقوم على القتال الموحَّد تحت راية “لا إله إلا الله.. محمد رسول الله” اتَّخذ “العرين” شعارًا له، وتميَّز بتمجيده للمقاومة وقادتها من كلِّ الفصائل كالشهيد ياسر عرفات “مؤسس خلايا المقاومة” في حي الياسمينة بالبلدة القديمة، والشهيد أحمد ياسين وأبو علي مصطفى وفتحي الشقاقي وغيرهم من قادة النضال الفلسطيني.
ولخَّصَ بيانُ العرين نهجَه المقاوم بتأكيده السير قُدُمًا وعدم ترك البندقية تحت أيِّ ظرف وتوجيهها نحو الاحتلال ومستوطنيه ومن يساندهم من العملاء فقط، وأن هذه البندقية لن تطلِق رصاصةً بالهواء، وغير ذلك يُعَدُّ خروجًا عن الصَّفِّ ولا يمثِّلهم كعرين، كما أنهم يرفعون الغطاء ويدينون كلَّ من يستخدم اسمهم لمطالبة التجَّار بالمال بحجَّة دعم المقاومة.
ووجَّه البيانُ رسالةً “للإخوة بالأجهزة الأمنية” لتؤكِّد وحدةَ الصَّفِّ الفلسطيني وسلامة نهجهم المقاوم وسلاحهم الموجَّه صوب الاحتلال وحده وأن غير ذلك ليس منهم. ودخلت “عرين الأسود” في مواجهة علنيَّة استمرَّتْ يومين مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي اعتقلت مصعب اشتية ابن العرين وأحد عناصر كتائب القسَّام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) و”المطارَد الأخطر” والمطلوب الأوَّل للاحتلال.
عمليات المجموعة
تبنَّت مجموعةُ عرين الأسود العديدَ من العمليات النوعية التي أَدَّتْ إلى سقوط قتلى ووقوع إصابات في قوَّات الاحتلال الإسرائيلي. وفقَ اعترافِ الاحتلال فقد ازدادت وتيرة العمليات في شهر سبتمبر 2022، حيث بلغت عمليَّات إطلاق النار على أهداف الاحتلال (75) عملية، (30 و28) عملية منها في جنين ونابلس على التوالي.
في فبراير 2022 اشتبكَ سائد الكوني (22 عامًا) وعددٌ من رفاقه مع جنود الجيش الإسرائيلي، ممَّا أدَّى لاستشهاده وإصابة ثلاثة من رفاقه الذين انسحبوا بسلام. وقامت السلطات الإسرائيلية باحتجاز جثمان الكوني ورفضت تسليمَه لذويه. لاحقًا، نَعَتْ “عرين الأسود”، ببيان لها الكوني ووصفتْه بـ”المقاوم البطل” وأكَّدت الحدثَ واستشهادَه بعد اشتباكٍ مع جنود الجيش الإسرائيلي.
وفي 24 يوليو 2022 استُشهد العضوان البارزان في المجموعة محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح في اشتباك مع قوات الاحتلال ونجا من محاولة الاغتيال المستهدفين الرئيسين المطاردين إبراهيم النابلسي ومصعب اشتية، وفي التاسع من أغسطس عام 2022 استُشهد إبراهيم النابلسي في اشتباك مع قوات الاحتلال رفقة الشهيد إسلام صبح، خلال حفل تأبين الشهيدين محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح أُعلن عن إطلاق مجموعة عرين الأسود كجسم عسكري جامع لعناصر المقاومة من الفصائل الفلسطينية في نابلس
في الخامس من أكتوبر 2022 اعتقلت قوَّات الاحتلال المقاوم سلمان عمران وهو أسير محرَّر من حركة حماس، بعد نفاد ذخيرتِه إثْر خوضِه اشتباكًا مسلَّحًا استمرَّ لساعات في قرية دير الحطب شرق نابلس. وتنسب سلطات الاحتلال للمقاوم عمران، الانتماء لمجموعة عرين الأسود والمشاركة في عمليات إطلاق نار استهدفت قوات الاحتلال والمستوطنين وإصابة عدد منهم
وفي العاشر من أكتوبر نفَّذت المجموعةُ عمليةَ إطلاق نار على حاجز عسكري غرب مدينة نابلس قُتِلَ فيها جندي في جيش الاحتلال. وفي فجر الثالث والعشرين من أكتوبر اغتال الاحتلالُ المقاومَ تامر الكيلاني وهو أسير محرَّر من الجبهة الشعبية وأحد قادة مجموعة عرين الأسود بعبوَّة جانبية في البلدة القديمة في نابلس. وفي فجر الخامس والعشرين من أكتوبر استُشهد القائد في مجموعة عرين الأسود وديع الحوح وهو من حركة فتح أثناء اشتباك مسلَّح مع قوة خاصَّة اقتحمت البلدة القديمة.
وبعدها، توالَت العمليات المشابهة في مناطق متفرِّقة من الضفَّة الغربية، وتبنَّت مجموعات العرين وعبر بياناتها عمليات إطلاق نار واشتباكات عديدة استهدفت بها الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. وفي 16 أكتوبر 2022 نفَّذت مجموعةُ “عرين الأسود”، عملية نوعية في منطقة نقطة المربعة الفاصلة بين طريق يستهار الالْتفافي وقرية تل استهل قرب نابلس. وبحسب بيان المجموعة، فقد تمَّ إلقاءُ قنبلةٍ يدويةٍ غير محلية الصُّنع، مؤكدين أنهم حقَّقوا إصابات في صفوف الجيش الإسرائيلي، وأن القنبلة وقعت بين خمسة جنود إسرائيليِّين ألحقها إطلاقُ وابلٍ مكثَّف من الرصاص نفَّذه مسلَّحو “عرين الأسود”، وأكَّدت المجموعة في بيانها أن كلَّ العناصر انسحبتْ بسلام بعد تنفيذ العملية النوعية
كما وجَّهت عرين الأسود في بيان مقتضب، تحية لأهالي مدينة نابلس الصامدين على الحصار، قائلة: “نعدهم بضربات تشْفي الصدور”. كما وجَّهت رسالة لأهالي القدس قائلة: “أمَّا أهلنا في القدس المحتلَّة وفي سلوان وشعفاط ومخيم شعفاط الأبية.. في كل بقعة من بقاع القدس نريد منكم ليلة سوداء على العدو بحجم إجرامه، لماذا القدس؟ لأن القدس أوَّل الرصاص وآخره.. أوَّل البدايات وأوَّل النهايات
الحظر على وسائل التواصل
في 15 أكتوبر وبعد طلبات من السلطات الإسرائيلية بحظر حسابات “عرين الأسود”، أغلقت إدارات عددٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، الحسابات الخاصة بمجموعة “عرين الأسود” في الضفة الغربية، وذلك بعد نشرها رسائل ومقاطع فيديو توثِّق عملياتها الأخيرة. واستجابت إدارة تطبيقات “تيك توك” و”فيسبوك” “وإنستجرام”، في حين لم تستجب لهذا الطلب شبكة “تليجرام”
شعار عرين الأسود
تضمَّن شعار مجموعات عرين الأسود العديد من العناصر ذات القيمة الكبيرة في المجتمع الفلسطيني، ومن أهمِّ هذه العناصر: أولًا: اسم “عرين” وهو يرمز لمأوى الأسود، ثانيًا: قبة الصخرة المشرفة، وهي ترمز إلى القدس البوصلة، ثالثًا: البندقية، وهي ترمز للطريق والنهج الأصوب، رابعًا: الفتى والمقلاع والخريطة، كلنا مطالبون بالدفاع عن أرضنا بلا استثناء ولن نعدم الوسيلة في ذلك
وفيما يخصُّ موقف السلطة برام الله والذي كشفته “القناة 12” العبرية، خلال شهر أكتوبر، عن عرض السلطة برام الله على المقاومين دمجهم في أجهزتها الأمنية، بالإضافة إلى شراء أسلحتهم، لكن كان الرفض واضحًا من المقاومين، فيما طلبوا من رئيس السلطة برام الله محمود عباس بمقاومة الاحتلال، ردًّا على اغتيال قوات الاحتلال شهداء جنين (محمد ألونة – محمد أبو ناعسة – أحمد علاونة – عبد الرحمن خازم)
ولسلامة البوصلة وطهارة السلاح؛ اتَّفق محلِّلون سياسيُّون على أن مجموعات “عرين الأسود” التي حدَّدت البوصلة نحو القدس والسلاح نحو المحتل الغاصب، جلبت بذلك دعم والتفاف الجماهير من حولها. وأن طبيعة مكونات مجموعات العرين التي لم تقتصر على حزب أو فصيل بعينه من أحزاب المقاومة العاملة في فلسطين، جعلت الجميع يدعمها ويشجِّعها ويقف في صفها.
فما هي استراتيجية مجموعة عرين الأسود وكتيبة جنين ومجموعات المقاومة الجديدة التي ظهرت في الفترة الأخيرة ونفَّذت الهجمات ضدَّ الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلَّة؟ وما هي معالم الاستراتيجية الصهيونية في مواجهتها؟