يقترن شهر رمضان الفضيل في مخيلتي بذكريات كثيرة رائعة متنوعة، على رأسها قصائد المسحراتي للشاعر الفذ فؤاد حداد (1927/ 1985)، والتي كان يلحنها ويؤديها الموسيقار سيد مكاوي.
هذه القصائد كانت تذاع في الثانية إلا خمس دقائق بعد منتصف كل ليلة من ليالي الشهر المبارك على مدار سنين طويلة.
أذكر جيدًا، وأنا صبي، كيف قادني الذوق الرفيع للوالد الجليل المرحوم عبدالفتاح عراق إلى ضرورة الإنصات بتركيز إلى (المسحراتي)، كي أنهل من غدير المتعة الفنية المدهشة،
ذلك أن قصائد (المسحراتي) تعد واحدة من أجمل ما بلغه شعر العامية المصرية من رقي وعذوبة وجمال.
هكذا عرفت الطريق إلى أشعار فؤاد وعبقريته الفاتنة، وحفظت منها ما تيسر، ورددتها بسعادة غير مرة أمام أصدقائي المقربين، حتى هل علينا مساء لطيف من مساءات سبتمبر 1982، فرأيت الرجل وجهًا لوجه، وأين؟ في بيته بميدان لبنان.
بدأت الحكاية في صيف ذلك العام، حيث أسسنا فرقة مسرحية من الشباب بقيادة الفنانة المخرجة الأستاذة العزيزة بسمة الحسيني اسميناها (الحكواتي)،
وهكذا بدأنا بروفات مسرحية (حكاية سعيد) على مسرح قصر ثقافة قصر النيل بجاردن سيتي (قصر السينما حاليًا) بدعم كبير من الجمعية المصرية لهواة المسرح ورئيسها الدكتور عمرو دوارة،
وقد كنت أحد أعضائها أيضًا. كما كنت المخرج المساعد وأحد الأبطال الرئيسين في تلك المسرحية.
المهم، قبل افتتاح العرض بثلاثة أيام اصطحبتني بسمة الحسيني إلى زيارة فؤاد حداد والتي كانت تعرفه شخصيًا، لندعوه لمشاهدة العرض.
كان يقطن في ميدان لبنان على ما أذكر. استقبلنا الرجل بود شديد. كان يرتدي بيجاما بسيطة تناسب خريف سبتمبر في أيامه الأخيرة.
ما إن رآنا حتى هتف: (تعالوا يا أولاد… تعالي يا بسمة… أنا عامل كنافة أحلى من اللي بتعملها أم أمين)، يقصد السيدة زوجته والدة ابنه الشاعر الكبير أمين حداد.
جلسنا نحو ساعة. كنت أتامله باندهاش وإعجاب وصمت. أجل… فرح بنا وبالدعوة، وشجع همة الشباب، ووعد بحضور العرض إذا وفرنا له سيارة تقله من بيته إلى المسرح، ثم تعيده آمنا.
وعدناه بالمحاولة الجادة، لكن الحظ لم يكن صديقا كريمًا معنا بما يكفي، فلم يشاهد العرض!
أتذكر جيدًا كيف أن المرحوم الوالد كان مفتونا بقصيدته (كحك العيد)، حيث يقول فؤاد حداد:
(مسحراتي منقراتي/ خالاتي عماتي سيداتي/ على تل عجوة وعسل وسمن/ ولا مجلس الأمن/ سهرانين لت وعجين/ يبنوا الهرم/ قالت حماة المحترم/ يا كحك يا سيد الكرم/ نبطلك؟ في المشمشي/ يا بنت قومي وفرفشي/ لا تحوشي ولا تختشي/ احمي الوابور واستحمشي/ اشي واشي تلاقيه مشي/ اشي نغبشي واشي حبشي/ واشي دندشي واشي انقشي/ واشي ينحشي واشي رشرشي/ سكر عليه بركة ايديه/ فرحة عينيه/ قال ايه وايه/ المشي طاب له والدق على طبله/ ناس كانوا قبله/ قال في الأمثال/ الرجل تدب مطرح ما تحب… ).
حقا… فؤاد حداد معجزة شعرية مذهلة عابرة للزمن.