يقول المؤرخ البريطاني برتراند راسل: “إذا عرف الإنسان جور الطبيعة احتقر الموت، وإذا عرف جور المجتمع احتقر الحياة”.
الجزء: 8
على إثر ما حل بأسرتي جراء فاجعة موت أختي “نجاة”، وما قابل ذلك من جحود لأبي الذي تنكر لنا علانية وادعى بغطرسة كبيرة بأن هذا الموت لا يعنيه في شيء رغم كون الميتة هي ابنته من صلبه ودمه لكن وكما سبق لي أن قلت في سابق الأمر أبي كان يعيش لنفسه وحده فقط، ولا يكترث بمن هم حوله حتى لو كانوا من أقرب المقربين إليه صلة ورابطة، خلال ذلك اليوم المشؤوم ورغم كوني طفلا صغير لإلا أني كنت أرى بأعيني وأعي بعقلي وأشعر بحواسي وكذا أحس بقلبي، كلها أمور سيئة للغاية تركت في داخلي جرحا عميقا لن يندمل إلى وأنا في داخل قبري يوم مماتي، إذ كيف لي بأن أنسى حيرة أمي المسكينة التي أثقل أبي في الماضي رحمها بجيناته الكروموزونية، ونطفات من نطفاته المشتتة هنا وهناك بين أرحام زوجاته المتعدد زواجه بهن ليس رغبة في تكوين أسرة مستقلة، أو لم شمل أسر مجتمعة داخل كيان واحد يحكمه هو بصفة رب المنزل وسيد الشأن العام.
نعم، لقد حز في نفسي كثيرا ما رأيت أمي عليه من سوء حال جراء موت أختي “نجاة” من جهة، ونتيجة لغطرسة أبي الذي لم يتفقد جثمان أختي داخل المستشفى الجامعي “ابن سينا” بمدينة الرباط للإلقاء عليها نظرة الوداع الأخيرة، إذ كيف له أن يعمد على توديعها وقتها وهي ميته ومركونة داخل ثلاجات التبريد لحفظ جثامين الموتي، أولم يسبق له أن ودعها وودعنا منذ سنين طويلة قد خلت، بحث أنه ودعنا ظلما وشططا يوم تطليقه لأمي وتركها في عزلة مجتمعية قاسية تواجه مصيرها الحتمي داخل مجتمع يسوده الجهل ويطغى عليه طابع الفقر والأمراض، أو لم يسبق له أن عرضنا نحن أبناءه الستة للتشرد والضياع والجوع والعري، قراراته الأبوية في حقنا جميعا كانت جد قاسية ومجحفة للغاية كونه لم يكن يتصف لا بالإحسان الديني أو الاجتماعي ولا بالرحمة الإنسانية، فقط سلاطة اللسان والبذيء من سوء الكلام الفاحش الذي تستحيي من سماع الملائكة ويهتز له عرش الرحمان فيما كانت تحب سماعه جهرا شياطين الإنس والجان.
أثناء هذا المأزق الذي أوجدتها فيه ظروف الحياة القاسية، لم تجد أمي بدا سوى أن اتصلت هاتفيا بإحدى جارات خالتي “فاطنة” هناك بمدينة الدار البيضاء، وبطبيعة اتصالنا بالهاتف هذا لم يكن من داخل منزلنا بل من لدن صاحب دكان تجاري مجاور لحينا السكني في مقابل تمكينه من دراهم معدودات نظيرا استهلاك أمي لتلك المكالمة الاستعجالية، والتي حقا لقت صدى إنساني إيجابي لدى “محمد لكرو” زوج خالتي “فاطنة” الذي بمجرد ما أن أخبروه حتى سارع بسيارة عمله صوب مشغلته “الحاجة فاطمة” التي كانت حقا امرأة ثرية ورحيمة بالضعفاء والفقراء والمحتاجين، حيث استنكرت ما قام به أبي من عمل مجحف أسريا وغير أخلاقي دينيا، وبه أعلنت تطوعها لتسديد كل التكاليف المالية التي تخص مراسيم تشييع ودفن جثمان أختي العالقة داخل ثلاجات حفظ جثامين الموتى بالعاصمة الرباط، وما كان من هاته المرأة الرحيمة “الحاجة فاطمة” سوى أن أمرت زوج خالتي “فاطنة” بأن يبقى بجانبها ليل نهار وطيلة مشوارنا ذهابا وإيابا من مدينة القنيطرة إلى الرباط ومن تم التنقل إلى وجهتنا الأخيرة بمدينة الرباط على متن سيارة نقل جثامين موتى المسلمين التي كلفتنا بادئ الأمر مبلغ ألف درهم مغربي، لكن الظروف كانت معاكسة لحظنا مرة أخرى ولم يتسن لنا إخراج أختي “نجاة” من مستودع الأموات جراء تأخرنا في إنجاز كل الوثائق المطلوبة لنقل جثمان أختي “نجاة” داخل تابوت خشبي لحظ جثمانها من أي إتلاف خلال السفر في الطريق الطويل.
الشيء الذي دفعنا للذهاب إلى مدينة الدار البيضاء دون حملنا معنا تابوت أختي وجثمانها، ولما صرنا جميعا داخل منزل خالتي “فاطنة” بمدينة الدار البيضاء كانت الوقت حينها قد تجاوز غروب الشمس ومغيبها، مما جعلني أنزوي في بيت خالتي “عائشة” دونما إشعالي للنور الكهربائي، إذ فضلت البقاء مستلقيا على ظهري فوق السرير عاشقا ذلك الظلام الدامس، وهائما في جرى لنا من ذي قبل وما نعيشه وينتظرنا من أهوال لا يمكننا تصورها ولا التنبؤ بكوارثها، وحده الله هو من يعلم غيبه ولا يطلع عليه أحدا سبحانه وتعالى له في خلقه شؤون، وما هي إلا لحظات حتى دخلت علي أمي البيت وأنارت المكان بالنور الكهربائي، واقتربت من وجهي وهي تمررها يدها اليمنى على رأسي قائلة لي بصوت خافت: “لا تبكي يا ابني ولا تحزن على فراق أختك نجاة لنا جميعا، فهي كما تعلم في جوار ربها عند ملك مقتدر ورب رحيم بها وبالخلق أجمعين، لا تحسبن موتها خسارة لنا بل هو فوز لنا وراحة لها في العالمين، فوزنا هذا يتجلى في مدى صبرنا المرير على تحمل حسراتها، ومشاركتنا آلامها، فيما راحتها الأبدية بدأت لحظة وفاتها إذ ودعت المرض وآلامه والحياة وقساوتها”.
بعدها مباشرة، لم أتمالك نفسي وأجهشت بالبكاء الصامت، ذلك البكاء الذي جعلني ثابتا فوق سريري فيما دموعي منهمرة من أعيني ساخنة وكأنها حمم بركان الغضب المارد والسخط الغير المعلن، غضب تمخض عن لؤم أبي وسخط تجلى فيما شاهدت بشكل مباشر أيام ظروفنا الصعبة يوم وفاة أختي هاته، وفي غاية مني للتخفيف عن أمي بعضا من أحزانها الشديدة، كفكفت دموعي تلك وتظاهرت أمامها بأن سـأكون من الصابرين على ما أصابنا من عزم الأمور، ومن الحامدين الشاكرين لقضاء الله وقدره كونه لا اعتراض على حكم الله أبدا، فهو وحده عز وجل الخالق والعيد، المحيي والمميت “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
ومع شروق شمس الغد الموالي، استيقظت أمي وأيقظتني في عجالة للتأهب من أجل العودة في الصباح الباكر إلى مدينة الرباط لجلب جثمان “أختي نجاة” من هناك والإسراع بمواراة جثمانها في قبرها وتحت الترى بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء، وحمدا لله فقد تحقق لنا مرادنا وجلبنا معنا ذلك الجثمان الميت الذي كاد أن يتحلل ويترك في الإهمال الكبير لولا العناية الربانية والرحمة الانسانية التي شملتنا بها “الحاجة فاطمة” جزاها الله خير الجزاء في الدنيا والآخرة، لكننا مع وصولنا قبل الغروب إلى مدينة الدار البيضاء وجدنا أنفسنا عاجزين عن دفنها بعد الغروب أو خلال الليل، وهكذا قمنا بإدخال تابوت جثمانها الطاهر داخل بيت “خالتي عائشة” كما عمدوا على إنارة يعض الشموع البيضاء بجوانب التابوت وكأنها منارة ستنير طريق الملائكة لزيارتها والترحم عليها، هكذا اعتقدت ببراءة فطرتي السليمة وقلة حيلتي الصبيانية، وما كان مني ساعتها سوى أن بقين داخل البين بجوار التابوت ولا ضوي ينير البيت سوى تلك الأضواء الخافتة الإضاءة المنبعثة من احتراق فتائل الشموع التي كنت أراها تحترق وموازاة معها كان قلبي يحترق شوقا للحنين الأخوي الذي كان يربطني بها أيام كانت على قيد الحياة، والذي سأفقده إلى يوم الدين بحيث سـأفتقد سماعي صوتها، ورؤيتي ابتسامتها، وفقداني تواجدها من بيننا.
… يتبع …