يقول الكاتب اللبناني علي إبراهيم الموسوي: “اكتب بنفسك، وأضف أفكارك، ودع قلمك يُبدع في الكتابة، ولا تكن نسخة لمن سبقك. صحيح أن الكتابة صعبة في البداية، لكنها ليست مستحيلة”.
قبل هنيهة من توقيت مساء هذا اليوم، تفاجئت بتعليق كتابي على منشوري بصفحتي التواصلية بالفايس بوك قام به في حقي كتنويه إيجابي أستاذي لمادة اللغة العربية “عبد الحميد الحيمر” الذي سبق له أن درسني هاته المادة الحيوية التي هي لغة الضاد ولغة القرآن الكريم، طبقا لقول الله عز وجل: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” الآية 2 من سورة يوسف.
والحقية، أن هذا الأستاذ الفاضل هو من له الفضل الكبير على شخصي من حيث تنميتي لفكري وارتقائي بثقافتي الواسعة والمتميزة، وقد بدأت هذه الحكاية منتصف سنة 1982م أيام كنت أتابع مساري الدراسي بالتعليم الاعدادي العمومي لدى أستاذي المذكور، إذ كنت وقتئذ تلميذا خمولا وكسولا لا أحب القراءة البتة، ولم يكن لدي أي شغف لتحصيل العلم أو كسب المعرفة، وكنت أرى في المدرسة “الاعدادية” بمثابة سجن كبير يحاصرني طيلة يومي، فأنا موجود في داخل القسم جسدا وروحا، لكني كنت مغيبا عقلا وفكرا وشعورا وكذا إحساسا، فكيف لي أن أركز انتباهي وأشد عقلي اتجاة ما يلقنه لي أساتذني أيامها، كوني كنت مهمشا أسريا، منبوذا مجتمعيا، مقصيا دراسيا بحيث لا أصدقاء مقربين ولا تفهم كبير من لدن السادة الاداريين، وحدهم ثلة من السادة الأساذة والأستاذات هم من تفهموا صعوبة وضعيتي المعيشية وقدروا انتكاستي الدراسية.
ومن بينهم هؤلاء جميعا أستاذي الفاضل “عبد الحميد الحيمر” الذي سبق له ذات يوم دراسي أن أخضعنا لامتحان كتابي في مادة الانشاء، وقتها طلب منا جميعا بأن نكتب موضعا إنشائيا كتابيا حول حدوث مطر غزير، أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل عميم، وتوجب على كل منا الخروج من المنزل في وقت مظلم بعد الغروب، لشراء شمعة ننير بها بيوتنا الأسرية، وما علينا ساعتها سوى سرد كل أطوار وتفاصيل أحداث ذلك اليوم المفاجئ.
يومها، لم أكن أتصور بأن ما سأكتبه وأنا على يقين تام بأن سأحصل على أدنى نقطة في الامتحان إيمانا مني بأني لا أصلح لأي شيء في هذه الحياة كما كان يقول لي أبي نهارا ومساء خلال زياراتي المتكررة لمنزله، إذ كان يقول لي باستهزاء كبير أمام زوجتيه “ف” و “ل” أنت لا تصلح لأي شيء يذكر، ستعيش طيلة أيام حياتك متسكعا في الشوارع، ومتشردا بين الناس، عليك اللعنة أيها الابن الكسول، كلامي أبي القاسي هذا اتجهي كان بمثابة حكم مسبق قد أجهز على أحلامي الآنية والمستقبلية، ودمر كل طموحاته التي كنت أتطلع لتحقيقها عندما أكبر وأصير رجلا، وبقيت ملامات أبي ولعنته تطارد مخيلتي وتهمس في أذني باسمرار كبير “أنت لا تصلح لأي شيء يذكر”، لكني كني في ذات الوقت أحس بروحي أن هناك قوة تزحزحني عن خمولي، ونورا يشع في قلبي لطمأنتي بأن خالقي هو رازقي، وإلهي هو معيني ولا إله إلا الله رب العالمين “الرحمن الرحيم”.
المهم، أني خلال يوم الاختبار الدراسي في مجال مادة الانشاء حملت قلمي الأزرق الجاف، وتناولت ورقتي وشرعت في السرد الطويل مدونا كل ما سمح به خيالي، ومكنتني منه تجارب حياتي الطفولية، ومع نهاية الوقت الزمني، سلمت كباقي التلاميذ ورقتي لأستاذي الفاضل، وكنت كما سبق لي ذكره موقنا بأن النتيجة ستكون ليبية وسأتعرض للاستهزاء من طرف أستاذي والسخرية من لدن أقراني التلاميذ، لكم المفاجئة كانت عكس ما تصورته واعتقدته من ذي قبل، إذ بعد مرور أيام قلية منحنا الأستاذ نقط مادة اختبارنا في الانشاء الكتابي، ومما زاد تخوفي وحيرتي ساعتها وهو تعمد الأستاذ الفاضل “عبد الحميد الحيمر” تركي في المقام الأخير وعند نهاية المطاف، مما ضاعف شكوكي وفاقم شعوري وإحساسي، سيما عندما ختم قوله أمام جميع التلاميذ والتلميذات قائلا لهم بثقة شديدة: “أتذرون من تحصل على النفقطة المتميزة الأولى بينكم جميعا” فخاطبوه بجرأة عالية: “إنها التلميذة زيب” فرد عليهم قائلا وهو يبتسم بهجة وسرورا: إن التلميذ الخامل نفسيا، والكسول دراسيا، والقابع من ورائكم مكانة وجلوسا” هنا علمت أني أنا المقصود، واغرورقت عيناي بالدمع وقلت في نفسي: لماذا يتعمد أستاذي الفاضل إحراجي أمام أقراني التلاميذ والتلميذات، لما يتخذني سخرية أمام الملإ العظيم، أهل هو مثل أبي قد أصدر حكمه علي دون علمه بسوء حالي وقساوة أحوالي” وبينما أنا أحدث نفسي بهكذا تساؤلاء متشائمة إذا به قد اقترب من مكان جلوسي على الطاولة وفجأة وضع ورقة إنشائي الكتابي بين يدي فلم أصدق نفسي من فرحة ما رأيته بأعيني، أحقا أني حصلت على ما مجموعه 18/20 كنقطة متميزة وتزيد من قيميتي في الامتحان الدراسي، أحقا أستذي يصادقني القول ويثبت العمل من خلال ما منحني إياه من استحقاق لم أكن أتوقع أبدا.
هكذا، أنصفني أستاذي الفاضل “عبد الحميد الحيمر” من ضلالات الفكر السيء، وأخرجني من ظلمات الجهل المبين إلى نور العلم والثقافة والمعرفة عن يقين، ومنذ ذلك اليوم بدأت أسحب الكتب المرجعية لأخي من بين رفوف خزانته الكتبية الصغيرة، ومن تم أشرع في قراءتها بعضها بلهفة وشغف كبير، وخير ما كنت أجد فيه ضالتي الفكرية وراحتي النفسية “كتب الشعر” وهكذا قرأيت جزءا يسيرا لكل من الشعراء العرب “أبو الطيب المتنبي – أو العتاهية – أبو العلاء المعري حيث كان هذا الشاعر الأخير يوحي لي بأنه لربما يعاني من سوء الكسوة كحالي كونه معري إلى حين أن تبين لي أنها اسمه وكنيته وليس كما صورت لي مخيلتي.
لذا، فأنا مدين لأستاذي الفاضل “عبد الحميد الحيمر” كونه صاحب الفضل الأول علي في مجال توجهي من أجل القراءة العميقة والكتابة المتميزة، وكذا نماء حبي وولعي القراءة بشكل جنوني إذا لا طبيب ولا دواء لمجنون الثقافة والفكر والأدب.
الصورة أسفله جمعتني بأستاذي الفاضل “عبد الحميد الحيمر سنة 2016م داخل نفس الاعدادية التي سبق لي أن درست فيها تحت إشرافه الشخصي “أطال الله عمره، وجعله ذخرا لنا ولبقية الأجيال الصاعدة والمنتعاقبة جيلا بعد جيل وبعد عمر طويل”.