تتعدد الأسباب والمسببات التي تؤدي إلى انحراف الفرد من الناحية الفكرية، وعندئذ تتغير استراتيجيات التعامل التي تستهدف تعديل هذا الانحراف وتصويب ما لديه من مغالطات أو مفاهيم خطأ تتباين مصادرها، ومن ثم يأتي الحوار المباشر في مقدمة الخيارات التي تُسهم بصورة فاعلة في تصحيح الرؤى والأفكار والمعتقدات والقناعات والمعلومات التي تشكلت في فترة منصرمة وحملت في طياتها تهديدًا للأمن الفكري على مستوى الفرد والجماعة.
ويساعد الحوار على تحريك الماء الراكد؛ حيث إن الفكر المشوب يجعل صاحبه صدأً صلب التفكير، وساكنًا في قناعاته؛ فتبدو الأمور بالنسبة له في غير نصابها الصحيح، والجميع من حوله على المسار الخطأ، وأنه ومن يتبع على الطريق السديد، ومن ثم يعمل الحوار على كشف الغموض، ويتولى إزاحة الستار عن الجوانب التي تعد متشابكة؛ فيقدم من خلاله المعلومة في صورتها المكتملة؛ لتزول الشبهة وتفند المغالطات.
وعبر لغة الحوار الهادف المنضبط القائم على معيارية الأسس والآداب المتعارف عليها نستطيع أن نحدث ما يعرف بتكامل الرؤية تجاه القضية محل الاهتمام؛ فعندما نتمكن من سد الفجوات والثغرات وإزالة الشوائب التي تدور حول فكرة بعينها، وعندما تصير الرؤية شاملة يؤدي ذلك حتمًا لنقطة التفاهم التي تشكل الوعي في صورته السليمة بعد المرور بعدة مراحل تبدأ من تحديد القضية وتمر بحصر نقاط الخلاف وصولًا لمرحلة التصحيح بعد المقارنة بين ما هو خطأ وصحيح؛ حيث يحدث ما يسمى بالصراع الداخلي الناتج عن التناقض المعرفي، وفي نهاية المطاف نقف على الحقيقة المجردة، وهي غاية الحوار ومنشوده.
ويقوم الأمن الفكري على ماهية الإجماع على الفكر، ويتنافى مع أحادية الفكر؛ لذا يشكل الحوار البناء أداة فاعلة في تحقيق الأمن الفكري، ومن ثم أضحت لغة الحوار مقوم رئيس من مقوماته، وتعمل على تعزيز التفاهم التي تؤدي بشكل طبيعي إلى خلق بيئة تساعد على القبول والتسامح، وتدحر مداخل التعصب والعصبية لدى طرفي الحوار؛ فيصبح اهتمام الفرد متمحور حول البحث عن الحقيقة، ويصبح الطرف المعالج مركزًا على تصويب نمط الفهم الخطأ الذي أكد الفكرة غير السوية في ذهن هذا الفرد.
والانتباه لفاعلية الحوار لا جدال حولها، والاتفاق أن مؤسسات الدولة معنية بتفعيل لغة الحوار للفئات التي شاع بينها الفكر غير القويم أو ما يسمى بالمنحرف، وهنا ينبغي التركيز على ماهية يقظة الدولة وأجهزتها المسئولة؛ لتحدد درجة الانتشار، ومصادر النقل، والأجندات المغرضة التي تحمل أهداف هذا الانحراف، وهو ما يساعد على سرعة جاهزية من يقوم بالحوار الفعال بصورة مخططة ومدعومة من مؤسسات الدولة وفي المقدمة المؤسسة الأمنية؛ نظرًا لأنها تمتلك أدوات فاعلة في هذا الخضم، وتضمن تنفيذ البرامج التوعوية التي تقوم على فلسفة الحوار البناء.
والمؤسسات الدينية لها دور بارز في آليات وبرامج المعالجة التي تعتمد على الحوار البناء؛ إذ تعتمد على طرائق الاقناع التي تستند على الأدلة والحجج والشواهد، والتفنيد المستند على علوم وصحيح العقيدة، ويُسهم دور المؤسسات الدينية في سد الطرائق التي يسلكها الأنصار الذين يتفاعلون مع بعضهم البعض على المستويين الداخلي والخارجي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر الفضاء وأدواته النافذة ووسائله المتعددة.
ولمؤسسات الدولة الاجتماعية فاعلية نلمسها عبر ما تقوم به من ندوات ومؤتمرات واجتماعات تستهدف تصويب الفكر غير الصحيح والشائع بين أطياف المجتمع، وفي هذا الإطار تستعين بالخبراء وأهل المعرفة والتخصص الذي يؤدون مهمة حقيقة في ميدان المواجهة؛ حيث الحوار الفعال والمناقشة الحرة التي تصقل المعرفة الصحيحة وتمحو المشوب منها في ضوء فلسفة الاقناع بعد المقارعة والتصحيح.
وأرى أن مسئولية تقويم أو تصحيح الفكر المشوب يقع على عاتق الجميع من أهل العلم والمعرفة وممن يمتلكون الفكر المستنير وفي مقدمتهم الباحثين على مختلف درجاتهم ومواقعهم؛ فالدولة قادرة على أن توفر لهم الفرص والدعم الذي من خلاله يقومون بهذه المهمة الوطنية عبر لقاءات مباشرة تعتمد على الحوار والمناقشة الفعالة التي تعمل على اقتلاع الفكر المنحرف من جذوره، وتلك هي الثمرة التي نرجوها.
إن خطورة الفكر الهدام وما يتمخض عنه من تفكير سلبي يؤدي إلى تهديد مباشر للسلم والأمن بالدولة، ويساعد على إضعاف الثقة، ويعمل على غرس الشك والريبة، ويضعف العزيمة ويهدر الطاقات البشرية، بل وقد يؤدي إلى التفكك والتشرذم، ومنه إلى الصراع والنزاع والشقاق بالصورة التي نعرفها، ومن ثم فقد بات الأمن الفكري من دعائم بناء الدولة ونهضتها، وعليه فإن لغة الحوار البناء ضرورة لا غنى عنها.
حفظ الله شعبنا العظيم ومؤسساتنا الوطنية وقيادتنا السياسية أبدَ الدهر.