كانت المادة التاريخية هي الشطر الأعظم من جملة كتاباتي ، ما قل منها أو كثر ، بعد أن أخذت بتلابيبي إلى فضائها المعرفي الفسيح ، قُرباناً وأسيراً ، فما أطلقت سراحي إلا وأسكبتني وأكسبتني وألبستني ، من ملاذ خيراتها نعيماً وملكاً كبيراً ، ولا جرّم أن التاريخ الإسلامي هو الأجدى رواقاً ومروجاً لذائقة نفسي وفؤادي ، وحسبك وماضيه الأنيق ، ويكأنه حدائق ذات بهجة ، معروشات وغير معروشات ، فيها من كل الثمرات اثنين مشتبهاً وغير متشابه ،،
سبرت أغوار التاريخ الإسلامي بدأب واسترسال غير ممنون ، ما أصابني نصبٌ ولا بعُدت علىّ الشُقة ، وقد كان قلمي هو الشاهد الأوحد على تلك النزعة الروحية ، التي لم تتهاوى قيد أنملة ، كأحد أطراف ثلاثة ، قريحتي وبناني وقراطيسي ، وكان القلم لي صاحباً وأنيساً ، كأننا صنوانان اثنان ، لا نفترقان ولا نتنافران ،،
شددت الرحل بقلمي مُشدِداً بوثاقة ، وفياً لميثاقِه ، لنأنسَ سوياً من لمحات التاريخ قبساتٍ ونوراً ، جُست به بين القرون الثلاثةِ الأُول ، فدثرتني نبالة الصحابة وزملتني براعة التابعين ، كل في رجاحةِ وجدارة ، ثم ِضقت ذرعاً من ضآلة الإنتاج البشري العظيم ، في القرون اللاحقة تترى ، ولاسيما في القرن العشرين ، ذلكم المدقع المسكين ، فبإماطة اللثام عنه ، وجدت من فئام البشر عظاماً قليلين ، فكان أعظمهم قدراً ، وأنبلهم رشداً ، وأنفعهم نصحاً ، هذا الذي سُمي بفيصل بن عبدالعزيز ، حاكم السعودية النجيب ، وقسورة زمانه العجيب ، ويعسوب القرن العشرين بلا مناص ولا ريب ، نعم الحاكم فيصل بن عبدالعزيز ، لمَا قدمهُ من مناقب لأمة الإسلام ، وللوطن العربي من محيطه إلى خليجه ، برباطة جأش ، وشدة بأس ، وعزة نفس ، وتا الله ما أتى القرن العشرين بمثله حاكماً ، ولا بمعشار فضله راسياً، فذاك هو الأسد الجسور ، الذي ثابر وناصر القضية الفلسطينية ، بشكيمةٍ وعزمٍ وفير ، بالسيف والقلم واللسان ، بقلبٍ نابضٍ حي ولب ذي حجر، لا يُثنيه أحدٌ ، ولا يباريه رأيٌ، وليعجب النُظّار حق إعجابهم ، بسيرورة هذا الرجل المغوار ، وهو يُشهر سيف التحدي لكل من وقف ظهيراً للكيان الصهيوني ، بمنع البترول عنهم ، وإن كانوا ملء الأرض عدداً ، في الوقت الذي كان أقرانه من حكام العرب والمسلمين ، ناكسي رؤوسهم للعدو ، سيالة لعابهم في الغداة والعشي ، ثمناً لبضع دراهم وريالات بخيسة مُزجاه ، لله در فيصل بن عبدالعزيز أسد القرن العشرين الشامخ ، وقطب الإسلام الراسخ ، بين شياه الحكام والنجاع وكلابهم الضالة ، وقد اعتراني الفخر والحزن الكظيم في آن ، وأنا أتحدث عن هذا الحاكم الميمون ، الذى بالكاد لا يعرفه من بني جلدتنا إلا النزر اليسير ، فهو خليفة الله في الأرض ، في ذلك الزمن الذي انقطعت فيه الخلافة ، وسيحفظ له الدهر مقولته الباسلة ، أمام عصبة المتآمرين على دحر الإسلام بالكلية قائلاً ( حضرة رئيس الولايات المتحدة _ هل ترى هذه الأشجار ؟ لقد عاش آبائي وأجدادي مئات السنين على ثمارها ، ونحن مستعدون أن نعود للخيام ونعيش مثلهم ، ونستغنى عن البترول ، إذا استمر الأقوياء ، وأنتم في طليعتهم في مساعدة عدونا علينا ) ،،
لقد استقرأت سيرة فيصل بن عبدالعزيز ، فاستسغتها فطفقت أقارعها بسيرورة الفضلاء في الأزمنة البعيدة ، وكيف لا وقد اجتمعت في فؤاده جل صفات العظماء ، فهو الحافظ للقرآن دون الثلاثة عشر سنة ، والفارس في ميادين القتال ، تحت لواء أبيه عبدالعزيز آل سعود ، وهو السياسي البارع ، والدبلوماسى النابغ ، وعالم الدين الناصع ، كأنه امتداد حقيقي لرجل القرن التاسع عشر ، السلطان عبدالحميد الثاني ، فقد خُلقّا الرجلان في أزمنة غير أزمنتهم ، وتلك حكمة السماء اليافعة ، ليكونا إسقاطين على مائتي سنة ، من الظلام الدامس والتيه اللاذع ،،
لقد كان فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله مثالاً للفضيلة بكل أركانها ، فتراه المتدين الحصيف، ورجل السياسة ، ورجل الاقتصاد ، ورجل المواقف الصعبة ، ونسيج وحده بين حكام المسلمين في القرن العشرين ، فمن شمائله المزهرة ، عنايته بالدولة السعودية عناية بالغة ، وهي تتخبط عشواء ، في عسرات وعثرات ، على كل صعيد ومنحى ، فقد ألغى نظام الرق ، وأعتق كل العبيد مانحاً إياهم الجنسية السعودية ، معوضاً المتضررين من هذا الإلغاء ستين مليونًا من الريالات ، وأنقذ الاقتصاد السعودي الوطني من مستنقع الديون لشركات البترول ، من مديونات تجاوزت حد الألفين مليون ريال ، ليُحدث نقلة نوعية في قوام الدولة السعودية ، جعلتها في الطليعة بين القرناء والغرماء ، فجعل للتعليم حظاً ميسوراً ، وارتقى بالبنية الصناعية والزراعية أعظم مُرتقى ، وضخ الأمل في نفس شعبه جملة واحدة ، ولعَمري كان فيصل بن عبدالعزيز سفيراً للإسلام حسناً ، فقد أسلم على يديه حاكم الجابون جوزيف ليسمى عمر ، كما أسلم أكبر أطباء فرنسا موريس بوكاي ، وكم من وقع الأثرين على العالم بالصدع والصدى ، وما أروع فيصل بن عبدالعزيز ، لما عوض مصر خسارتها في سلاح الطيران جراء حرب 1973م ، فخلدت مصر اسمه فخرا على أحد أعظم شوارع القاهرة والجيزة ( شارع الملك فيصل ) ،،
نعم الفارس فيصل بن عبدالعزيز ضارباً بتهديدات الغرب عرض الحائط ( أنه لا يخشى الموت ، ويتمنى أن يموت في سبيل الله ) وكأن السماء استجابت لدعوته ، فقد غدر به أحد أبناء عمومته فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز ، قاتلاً إياه بطلقات نارية ، ليلقى ربه وهو شهيد ، في يوم من أيام الإسلام العاصفة ( 25 مارس 1975م ) ، ليعدم قاتله مقطوع الرأس ، ويُكبت أعدائه في الطمس ، ويحفظ له التاريخ مقام صدق ، لتعقم النسوة في إنجاب مثله من بعده ، كما عقمت النساء من إنجاب شبيه له من قبله ، رحم الله فيصل بن عبدالعزيز ، بفيضه الغزير ، فنعم الثائر الحرير ، والعالم النحرير ، والحاكم الأمير —–