كان (بهاءالدين بن زهير) يغار على زوجته جدا،
حتى أنه كان يغار أن يذكر اسمها أمام الناس غيرة أن تمر حروف اسمها على أذان الأغراب ،فكان كلما أراد أن يتحدث عن أمر يخصّها أمام الناس يقول : “بعض الناس قالوا وفعلوا”
ولقد كتب بيتين يعتبرهما النقاد العرب من أكثر الأبيات غيرة في الشعر العربي كله حيث قال :
وأنزهُ اسمكَ أنْ تمرّ حروفهُ
من غَيرَتي بمَسامِعِ الجُلاّسِ💜
فأقولُ -بعضُ النّاس-ِ عنك كناية
خوْفَ الوُشاةِ وأنت كلّ النّاسِ💜
وجاء في القرآن الكريم :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } (59).
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله :
يقول تعالى آمرا رسوله ، صلى الله عليه وسلم تسليما ، أن يأمر النساء المؤمنات – خاصة أزواجه وبناته لشرفهن – بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء . والجلباب هو : الرداء فوق الخمار . قاله ابن مسعود ، وعبيدة ، وقتادة ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء الخراساني ، وغير واحد . وهو بمنزلة الإزار اليوم .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب .
وقال محمد بن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن قول الله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى .
وقال عكرمة : تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو عبد الله الظهراني فيما كتب إلي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن خثيم ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) ، خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها .
وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، حدثنا يونس بن يزيد قال : وسألناه يعني : الزهري – : هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر إلا محصنات . وقد قال الله تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) .
وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة ، إنما ينهى عن ذلك لخوف الفتنة; لا لحرمتهن ، واستدل بقوله تعالى : ( ونساء المؤمنين ) .
وقوله : ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) أي : إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر ، لسن بإماء ولا عواهر ،
وقال الإمام السدي في قوله تعالى : ( [ يا أيها النبي ] قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) قال : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة ، يتعرضون للنساء ، وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن ، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة ، كفوا عنها . وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب ، قالوا : هذه أمة . فوثبوا إليها .
وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة .
وقوله : ( وكان الله غفورا رحيما ) أي : لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك .
وجاء في السنة النبوية الشريفة أن ( سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ ) قال : لو رَأَيْتُ رَجُلًا مع امْرَأَتي لَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عنْه، فَبَلَغَ ذلكَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: أَتَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ منه، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِن أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، ما ظَهَرَ منها، وَما بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ بَعَثَ اللَّهُ المُرْسَلِينَ، مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ. [وفي رواية]: وَقالَ: غيرَ مُصْفِحٍ وَلَمْ يَقُلْ عنْه
وقد وضع الشَّرعُ حُدودًا للكبائرِ، وبيَّنَ ضَوابِطَها وشُروطَها التي تُقامُ بها، ولا تُقامُ دونَ تَوفُّرِها، وعلى ذلك فيَنبغي للمُسلِمِ الوُقوفُ عندَ هذه الأمورِ، فيُطبِّقُها كما أمَرَ اللهُ سُبحانَه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا تَرجِعُ إلى المَشاعِرِ الإنسانيَّةِ والرَّغَباتِ البَشريَّةِ منَ الحُبِّ، والكُرهِ، والغَيرةِ، وغيرِ ذلك.
وفي هذا الحَديثِ يَروي المُغيرةُ بنُ شُعبةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ ( سَعدَ بنَ عُبَادةَ رَضيَ اللهُ عنه ) -لِشِدَّةِ غَيرَتِه- أخبَرَ أنَّه لو رَأى رجُلًا مع امرأتِه يَزني بها، لَضَرَبه بحدِّ السَّيفِ القاطِعِ، «غيْرَ مُصْفَحٍ»، أي: غيرَ ضارِبٍ بِصَفحِ السَّيفِ -وهو جانِبُه- لإرهابِه وتَخويفِه فقط، بَل يَضرِبُه بحدِّه، وهذا كنايةٌ عن قتلِه، ومُرادُه: أنَّه لن يَنتظِرَ إلى حينِ حُضورِ أو إحضارِ شُهودٍ ليَشهَدوا تِلكَ الوَقعةَ الشَّنيعةَ، ثُمَّ يُقامَ بهمُ الحَدُّ.
وسببُ قولِ( سعدٍ ) ذلك ما ورَدَ عندَ أحمَدَ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «لمَّا نزَلَتْ هذه الآيةُ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، قالَ سعدُ بنُ عُبادةَ -وهو سيِّدُ الأنصارِ-: أهكذا أُنزِلَتْ يا رسولَ اللهِ؟» الحديثَ، وفيه: «واللهِ يا رسولَ اللهِ، إنِّي لَأعلَمُ أنَّها حقٌّ، وأنَّها منَ اللهِ، ولكنِّي قد تَعجَّبتُ أنِّي لو وَجدتُ لَكاعًا قد تَفخَّذَها رَجلٌ، لم يَكُنْ لي أنْ أَهِيجَهُ ولا أُحَرِّكَه حتَّى آتِيَ بأَربَعَةِ شُهَداءَ، فواللهِ لا آتِي بهِم حتَّى يَقضِيَ حاجَتَه»، وبيَّنَ أنَّه سيُعاجِلُه بالقَتلِ، وكانَ ذلك قبلَ نُزولِ آيةِ المُلاعَنةِ.
فبَلَغ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ لأصحابِه: «أَتَعْجَبُونَ من غَيْرَةِ سَعْدٍ؟!»
والغَيرةُ: الحَميَّةُ الَّتي تَعتري الإنسانَ عندما يَرَى في أهلِه ما لا يَرضَى. وأكثَرُ ما تُراعى في النِّساءِ.
وجَعَلَ اللهُ سُبحانَه هذه القوَّةَ في الإنسانِ سببًا لصيانةِ الماءِ وحِفظًا للإنسانِ، ولصيانةِ كلِّ ما يَلزَمُ الإنسانَ صيانتُه، ثُمَّ أخبَرَهم أنَّه أشَدُّ غَيرةً من سَعد .
وأنَّ اللهَ تَعالَى الَّذي شَرَعَ هذا الحُكمَ هو أشدُّ غَيرةً على مَحارِمِه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومِن سَعدٍ
والغَيرةُ تَتضمَّنُ البُغضَ والكَراهةَ لهذا الفِعلِ، فمِن أجلِ غَيرتِه سُبحانَه وبسببِها «حرَّمَ الفواحِشَ»، وهي كلُّ خَصلةٍ قبيحةٍ مِنَ الأقوالِ والأفعالِ، وقد حرَّمَ عزَّ وجلَّ «ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ» فكلُّها ممنوعةٌ، سواءٌ وقَعَت في الظَّاهرِ ورآها النَّاسُ، أو وقَعَت بعيدًا عن أعيُنِ النَّاسِ؛ لأنَّ اللهَ يراها، فهو سُبحانَه يَغارُ إذا انتُهكِت مَحارِمُه.
وغَيرةُ اللهِ تَعالَى من جِنسِ صِفاتِه التي يَختصُّ بها؛ فهي ليست مُماثِلةً لغَيرةِ المَخلوقِ، بَل هي صِفةٌ تَليقُ بعَظَمتِه، ومن خصائصِه التي لا يُشارِكُه الخَلقُ فيها،
وهي من صِفاتِ الكَمالِ المحمودةِ عَقلًا وشَرعًا وعُرفًا وفِطرةً، وأضدادُها مذمومةٌ عَقلًا وشَرعًا وعُرفًا وفِطرةً؛ فإنَّ الذي لا يَغارُ بَل تَستوي عندَه الفاحِشةُ وتركُها؛ مذمومٌ غايةَ الذمِّ.
«ولا أَحَدَ أحبُّ إليه المِدْحَةُ مِنَ اللهِ»، وهو الثَّناءُ بذِكرِ أوصافِ الكَمالِ والإفضالِ، «ومِن أجْلِ ذلك وَعَد اللهُ الجنَّةَ» عِبادَه إن هم أطاعوه، وأثنَوا عليه بما هو أهلُه، ونزَّهوه عمَّا لا يَليقُ به سُبحانه.
وفي الحديثِ نصائح وتوجيهات منها :
١- أنَّ الغَيرَةَ وغيرَها مِنَ الصِّفاتِ المحمودةِ – مَحكومةٌ ومُقيَّدةٌ بحُكمِ الشَّرعِ.
٢- وفيه: إثباتُ صِفةِ الغَيرةِ لله سُبحانَه كما يَليقُ به.
٣- وفيه: أنَّه لا يُحكَمُ بالقتلِ إلَّا بعدَ ثُبوتِ المُوجِبِ له….