في يناير من عام 1985 كنت عائدا لمصر من باريس، وذهبت لمطار شارل ديجول الدولي بفخامته وهيبته في موعدي لاستقل طائرة الخطوط الجوية الفرنسية المتجة إلى القاهرة (Air France) .
أنهيت كل الإجراءات وجلست في قاعة انتظار الركاب الخاصة بالطائرة ننتظر جميعا السماح بالدخول للطائرة.
ولكن ذلك تأخر كثيرا لما بعد موعد إقلاع الطائرة مما أدى إلى حالة من القلق بين الركاب. ولم تمض نصف ساعة إلا ودلف إلى القاعة كابتن الطائرة ومساعدوه وطاقم المضيفات وانتشروا بين الركاب. ووقف الكابتن وخلفه مترجمون للانجليزية والعربية مبتسما وراح يتحدث بأدب جم معتذرا عن تأجيل إقلاع الطائرة بسبب إضراب مفاجئ لعمال شحن الطائرات بالمطار، ويقوم حاليا مسؤلون عن إدارة المطار بالتفاوض مع المضربين لإنهاء هذا الإضراب بأسرع وقت ممكن. وقال الكابتن أن جميع الركاب الآن في ضيافة الخطوط الجوية الفرنسية، كما لو كنا في الطائرة تماما، وسوف يوافينا بمستجدات المفاوضات حسب التقدم فيها.
بدأ طاقم الضيافة في توزيع المشروبات بأنواعها على الركاب وتقديم الطعام لمن يطلبه. وعلمنا من مساعدي الكابتن أن الإضراب سببه رفض الحكومة زيادة أجور العاملين التي لم تتغير منذ سنتين! وأن المضربين أمهلوا الحكومة أسبوعا قبل تنفيذ الإضراب طبقا للقانون غير أن الحكومة لم تتحرك!
وكانت فترة انتظار المفاوضات هذه هي أول سابقة لي بأي مطار وأنا الذي من كثرة السفر والترحال (لفّيت) على أكبر مطارات العالم كعب داير!! وكلما هبطت عائدا في مطار القاهرة الدولي أسأل الله ألا يحكم عليّ بالسفر مرة أخرى أو رؤية أي مطار. لكن لم يستجب عز وجل لدعائي هذا ولو مرة واحدة حتى الآن !! وبالقطع له في ذلك حكمة سبحانه.
دام الأمر كذلك في قاعة انتظار الركاب لمدة ثلاث ساعات تقريبا، حتى حضر كابتن الطائرة وأخبرنا أن المفاوضات نجحت، وأن المضربين وافقوا على زيادة أجور العاملين الأقل رواتب بينهم، حتى يتم البت النهائي في بقية الأجور في اجتماع الحكومة القادم بعد أسبوع.
وبعد وقت قليل تم السماح لنا بدخول الطائرة التي أقلعت بوعد من الكابتن بأن يعوض التأخير بقدر ما يستطيع.
وقام طاقم الضيافة بتوزيع هدايا من باريس عليها شعار الشركة للركاب، وحصلت منها على تي شيرت براند، وطقم أقلام، ومجسم لبرج إيفل من النحاس، مازلت أحتفظ بهم كذكرى حتى الآن.
وقبل الهبوط أخبرنا كابتن الطائرة أن إدارة الشركة قررت منح كل راكب على متن الطائرة خصما قدره 20% من ثمن التذكرة القادمة على الخطوط الجوية الفرنسية تعويضا عن التأخير الذي لا يد للشركة فيه، وسيتم توزيع إيصالات رسمية بذلك.
وهبطت الطائرة في مطار القاهرة الدولي، ودلفت إلى المطار وفي رأسي مشاعر مختلفة تصتخب معا، ومنها ملامح حلم أن تصبح بلادي في مصاف تلك الدول المتقدمة بكل مقوماتها التي شهدتها في فرنسا، خارج وداخل مطار شارل ديجول الدولي.
العجيب أنه تصادف أن أسافر منذ خمس سنوات تقريبا على متن طائرة لنفس الشركة، شركة الطيران الفرنسية، فلم أجد ذلك المستوى المتفرد كما كان سابقا، سواء في الضيافة أو في تجهيزات كابينة الطائرة نفسها، من مقاعد وشاشات وخدمات وغير ذلك، ووجدتها بالفعل تقل كثيرا عن مثيلتها في طائرات شركة مصر للطيران التي أحرص على السفر عليها دائما.
فسبحان المغير الذي لا يتغير، وسلاما لماض جميل عشته بكل ما فيه، وما أجمل ما كان فيه ……