قبل أسابيع قرأت حوارية كان قد نشرها على صفحته الشخصية في الفيس بوك، امتازت بالعمق والذكاء و فن الرد بين الشخصيتين ،فأغرمت بها، لذا كتبت عليها تعليقا مقتضبا (الله الله) عندها رد صاحبها على تعليقي مشاكسا كعادته (لعد شعبالج)،ثم أردف (كيف؟ألم تقرأي روايتي فيرجوالية ؟ ذلك الحوار هو من الرواية)
وبالفعل لم أكن قد قرأتها لأنني لم أقرأ من رواياته الستة عشر سوى خمسة روايات ،وبكرمه المعتاد في اهداء رواياته وعدني بإهدائي ثلاثية فيرجوالية فطمعت وقلت (وأريد روايتك الأخيرة أيضا،وقوقة)
وهكذا ذهب زوجي المبتلى بزوجة تطلب منه احضار الكتب بدل اللحم والخضار ليجلب الأمانة من صاحبها .
وبالفعل أحضرها،وحين عاد وضعها أمامي وقال:
(خذي ،هذه مخدراتك ،هيا شميها.)
نعم القراءة هي إدمان ،لكنها إدمان صحي جدا .
نظرت إلى هدية الروائي سعد سعيد (ثلاثية فيرجوالية وروايته الأخيرة وقوقة)،واعترتني الحيرة،فبأي كتاب ابدأ؟!
ولأن التوقيت هو من يحدد قيمة الحدث والموقف قررت أن ابدأ بقراءة وقوقة لأنها روايته الصادرة حديثا.
فوضعت قطعة من الشوكولاتة في فمي لأنعم بجرعة مضاعفة من الدوبامين هرمون السعادة، وقلت ،هيا سعد سعيد لنرى من الذي يوقوق هنا في هذه الرواية،وشرعت في القراءة.
أقول بثقة تامة أن هذه الرواية مهمة جدا ،لها أبعاد سياسية ،سايكولوجية ،اجتماعية في غاية الأهمية والخطورة.
تناولت رواية وقوقة موضوع اضطراب الشخصية النرجسية narcissistic personality disorder
وتحديدا طيف (الشخصية النرجسية الخفية الهشة أو الضعيفة ) من أطياف أضطراب الشخصية النرجسية متمثلة بالشخصية المحورية في الرواية (مصطفى).
تلك الشخصية التي تظهر الإهتمام والحب وتضمر الحقد والضغينة والغيرة والحسد وتستخدم كل الأساليب الملتوية للوصول إلى مآربها على حساب مشاعر الآخرين وحياتهم .
والشخصية النرجسية مؤذية بشكل لايوصف ،فهي تمتصك ثم ترميك من دون أدنى شعور بالذنب أو التعاطف ،إنها الشيطان بحد ذاته.
وهي غالبا تحدث بسبب صدمات عاطفية في مرحلة الطفولة والتعرض لسوء المعاملة الأسرية وقلة التقدير أو أن يتربى الطفل على يد أم أو أب نرجسيين
الشخصة النرجسية الخفية الهشة او الضعيفة من أخبث الشخصيات النرجسية على الإطلاق وأشدها مكرا،فهي تشعر بالدونية والعار وتكره ذاتها،تمارس دور الضحية وتقليل قيمة نفسها بالتذلل والتملق كوسيلة للحصول على ماتريد .
والنرجسي الخفي يختلف تماما عن النرجسي الصريح ،فعلى الرغم من أنانيتهما الشديدة إلا أن النرجسي الخفي يلجأ إلى المسكنة وتقليل احترام الذات لنيل التعاطف وهو يبدو للوهلة الأولى مثل أي شخص طبيعي آخر ،هادئ،متواضع،خجول وهذه الصفات لن نجدها في النرجسي الصريح المتصف بالغرور والتكبر والصورة الظاهرية اللامعة والأنيقة التي يحرص تماما على إظهارها لمن حوله.
وفي أقذر سلوك بشري انتقائي يبحث النرجسي الذي هو أساسا ضحية عنف اسري أو شخصية نرجسية أخرى ،يبحث عن ضحية ليمارس عليها الظلم الذي مارسه عليه جلاده الأول كرغبة في التماهي مع شخصية الظالم و تقليده أو اعجابا به أو حقدا عليه حسب فرويد.
أو حسب ابن خلدون (تقليد المغلوب للغالب).
وعادة تكون الضحية التي يبحث عنها النرجسي هي ضحية ضعيفة مستنزفة نفسيا وليست ضحية قوية ليمارس ظلمه ونرجسيته عليها.
لذا لجأ الروائي سعد سعيد وبذكاء كبير لمقاربة اضطراب شخصية بطل الرواية النرجسي الخفي الضعيف مع الصفات الفطرية الغريزية النرجسية لطائر الوقواق ،وقد ألم المؤلف بملامح الشخصية النرجسية الخفية إلماما كبيرا ظهرت واضحة جدا في رسم شخصية بطل الرواية (مصطفى) الأناني الوصولي عديم الشعور والتعاطف مع نسبة كبيرة من انعدام الضمير إضافة لكونه أميا ثقافيا وفكريا وفاشل دراسيا.
وقد كان سعد سعيد مشاكسا جدا للقارئ ومستفزا له حين عمد إلى اغراق الرسائل التي يكتبها بطل الرواية النرجسي الفاشل إلى الشخصيات المتنفذة والمهمة وصاحبة القرار بالأخطاء الإملائية ،وهذه التقنية الحقيقة ممتعة جدا وفيها من الكوميديا السوداء الكثير .
لقد وضع سعد سعيد لهذه الشخصية النرجسية الخفية مسارين أو حياتين محتملتين تنتهيان بنهايتين مختلفتين تماما.
فمرة يكون المسار تصاعديا حتى تصل تلك الشخصية الدنيئة إلى أعلى المناصب الإدارية المهمة ومرة في مسار آخر تنتهي نهاية تعسة ومنطقية تناسب أفعالها المشينة ،على الرغم من أن الشخصية في المسارين أو الحياتين هي نفسها باضطرابها ودونيتها وأساليبها الملتوية.
لدي ملاحظة واحدة على رواية وقوقة على الرغم من أنها في رأيي رواية مهمة جدا لما تحمله من اشارات وتنبيهات وأفكار توعوية على قدر كبير من الأهمية .
برأيي أن المقاربة بين صفات طائر الوقواق وشخصية البطل النرجسية الخفية الهشة لم تكن تحتاج إلى تلك المقدمات التي وضعها الروائي يصف فيها لنا سلوكيات طائر الوقواق في بداية عدة مداخل قبل أن يشرع بسرد تفاصيل الحبكة ،وكأننا كنا نشاهد فيلما على ناشيونال جيوكرافيك national geographic عن عالم الحيوان وطائر الوقواق وهذا قد أخرجنا من المزاج (الموود) الروائي الذي كنا قد انغمسنا فيه ،وكروائي مثل سعد سعيد لم يكن صعبا عليه أن يستغني عن تلك المقدمات ويسرد لنا المقاربة بين نرجسية البطل ونرجسية طائر الوقواق من خلال التفاصيل السردية أي أن يمزج تلك المعلومات عن الطائر في خضم حديثه وهو يسرد لنا الرواية ،أعتقد ستكون الفرشة السردية بهذه الطريقة أرفع جمالا وأكثر نضجا .
وفي النهاية أقول ما الذي يريده القارئ من قراءة الرواية سوى المتعة أولا وبعض المعلومات ثانيا؟!
وهذا ماتحقق في رواية وقوقة للروائي سعد سعيد.
فقراءة الروايات متعة ومساندة،فهي تساندك في كل حالاتك ،إن كنت حزينا ستقرأ الروايات ،ستواسيك وتسكت الضجيج والصخب داخل رأسك، وإن كنت سعيدا ستقرأ الروايات وستتضاعف متعتك ويرتفع منسوب الدوبامين والسيروتونين في دمك ،وإن كنت (سعد سعيد) ستكتب الروايات ثم تلحقها بمنشورات مشاكسة وساخرة على صفحتك الشخصية في الفيس بوك .