في أول أيام دخولي للإقامة القدمى في فرع النسائية والتوليد ،كنت أشتعل حماسا لتعلم كل ما يخص هذا التخصص في الطب ،من الأبرة للصاروخ ،لذا كنت أزاحم الممرضات أو بالخصوص القابلات لتوليد النساء وسحب رأس الطفل، أو مقعده، إذا كان مزاجه سيئا وقرر الخروج للدنيا بمقعده أولا بدل أن يطل عليها برأسه إشارة منه إلى وضاعة هذه الحياة وتفاهتها لذا فهو يلقي عليها التحية بمؤخرته.
وتصرفي هذا كان شاذا جدا ،لأن الطبيبات عادة مكانهن صالة العمليات وليس سحب رأس أو مقعد الطفل المشاكس.
لكنه الشغف بالتعلم فماذا أفعل له!
ورغم امتلاكي لنفس الشغف في صالة العمليات لكنني لم أترك أو اتغاضى عن العمل في صالة الولادة.
وهكذا بداية كنت أواجه نظرات غريبة وامتعاض من القابلات لأنني أسلب منهن عمل يدر عليهن الدنانير الكثيرة مع كل رأس يخرج ،اعتقدنَ لأول وهلة أنني أبحث مثلهن عن (إكرامية) ،لكن بعد تأمل قصير لتصرفاتي وهن العارفات اللائي لايخفى عليهن شيء ، الخبيرات بالدنيا ومافيها،فهمن مقصدي ،فرحن يفسحن لي المجال لفعل ماأبغيه بل ويساعدنني فيه ،ثم يخرجن ببساطة لإستلام (إكراميتهم)من جيب الزوج السعيد .
وفي إحدى الليالي كن قد إلتففن حولي وأنا أقوم بتوليد بكرية تلعن اليوم الذي تزوجت فيه،فدخلت في تلك اللحظة الطبيبة الإختصاص المناوبة لتلك الليلة ، وحين رأتني أفعل ماأفعل شعرَتْ بالقرف من تصرفي ،ثم قالت وابتسامة ماكرة تطفح وتحوم على وجهها الأبيض المستدير وقد كانت (عمتنا الأختصاصية) ناعمة وجميلة لكن أفكارها ضيقة أو ربما هي تتبع القاعدة لا الشواذ ،أي أنها تفهم نظام القطيع ولاتفهم لمَ يشذ عنه بعض البشر .
قالت:
(ياا هاي تهاني هم تحب تولد النسوان مثلكم )!!
وتقصد بكلامها بأنني أنتظر (إكراميتي) كالقابلات ،وهو ما يدفعني لهذا الفعل الشائن والذي يحط من قدري كطبيبة .
طبعا انا ببرائتي أو بغبائي الحقيقة حينها لم أفهم مارمت إليه ،فابتسمت لها ولم أفه بكلمة واحدة ،و بعد خروجها رحت استفهم من القابلة عن معنى ومناسبة هذه الجملة الغريبة فقالت:
(دكتورة مو ماكو طبيبة توكف توَلّد، بس انتي، فهي عبالها تدورين فلوس ،بس احنا شرحنالها وضعج ،وافتهمت تريدين تتعلمين وبس )
الحقيقة كان شرح القابلة لي كخنجر تلقيته بصدر عارٍ دون درع يقيه.
فانغرس مباشرة في قلبي.
سألت نفسي حينها ،ألهذا الحد لايميز الناس بين الخبيث والطيب،الغث والسمين،أم إنه شرقنا المتصف بسطحيته وتعاليه وتكبره الخاوي!
جرب فقط أن تكون مختلفا عن المألوف وسترى كمية اللكمات والركلات التي ستتلقاها في عالمنا الغريب هذا.
المهم ماحدث أن في سنتيّ الإقامة القدمى وضعت الكانيولات بدل الممرضات والماء المغذي وسحبت رؤوس الأطفال الطيبين ومؤخرات الأطفال المشاكسين وحصلت على (شوال)كبير مملوء بنظرات الإزدراء أو التعجب من (عماتنا)الطبيبات وبعض زميلاتي مخلوطة في هذا الشوال مشاعر حقد وغضب من قابلات حديثات سلبت منهن حقهن في تعلم التوليد لبعض الوقت،لكنه الشغف ماذا أفعل له !
سامحوني كنت أريد أن أتعلم فحسب .
لكن الرحمة حلوة أيضا ، فقد كنت أموت عطشا وإنهاكا ،فلماذا لم يتذكرني الآباء السعداء (ببطل ببسي )مثلا على أقل تقدير ! أم كنت أنا الجندي المجهول في القضية هذه! أو ربما كنت الشريرة التي تأخذ أرزاق الناس من دون أن تفهم كيف يدور هذا العالم!
مع أن أمي أخبرتني أنها ولدتني في فجر صيف قائظ وقد خرجت من رحمها مطلة( برأسي) الصغير وليس بجزء آخر من جسدي ،كما يهوى بعض الأطفال المشاكسين الخروج ،رأسي الذي يحمل أفكارا غريبة (ودتني بستين داهية) ،ومازالت تفعل.