(إن لم أكتبها،لا تبلغ الأشياء مداها، وتظل مجرد أشياء عشتها)
آني أرنو ، روائية فرنسية وحاملة نوبل.
مانسوّد به بياض الورق ليس حبرا على الإطلاق بل هو صرخات تم كتمها ، وجراح مفتوحة ننبش فيها، لتتخلص من شوائبها وتستريح ،ثم نعتقد بأنها ستصبح قابلة للخياطة والغلق، وعطر ذكريات تصفعنا رياحها كل مساء ،ففي المساء تجتاحنا الذكريات ،وهذا معروف باسم (الإكتئاب الليلي_night time depression).
لكن لعبة السرد هو الخلط بين الدموع والابتسامات والحكاية والخيال ،فتبدو القصة والرواية والقصيدة بين يدي القارئ رحلة ممتعة .
لكن هل تنتهي الأشياء وتٌحرَق وتذر رمادها الرياح إن كٌتِبَت؟!
أنا واحدة من الذين هلوسوا يوما وقالوا، حين نكتب عن جرحٍ غائرٍ، فإننا نحرق صاحبه إلى الأبد وننتهي منه مع آخر حرف يتقيأه القلب على الورق .
لكنها محض خدعة ،فحين تكتب أشياءك ستحيلها إلى مدينة متنقلة في قطار ،تمر على كل محطات العالم فيركب كل واحد مقطورته التي تشابه شكل ولون روحه الممزقة ، إن لم أكتبها لن تبلغ الأشياء مداها ، وستظل مجرد أشياء عشتها.
يقول الشاعر عمر الحديثي في قصيدته (طائر الشرق)
ولا مَرْسى ..
أجوبُ بِحارَ كُلّ الأَرْضِ
كي أنسى ..
ولا أنسى
ولا قَبَسٌ يزورُ المُقلة الخَرسا
يبُثُّ بريقَهُ النَفسا
حقائق علمية أثبتت أن خلايا الجسد تتبدل بالكامل كل سبع سنوات ،لأنك في عملية هدم وبناء مستمرة للخلايا، وبناءً عليه، قالوا، كي تنسى تجربة مريرة أو غائب عزيز لابد أن تقضي سبع سنوات تصارع فيها الشوق والغياب وفراغ خلفوه ، فوجودهم لم يكن عابرا،لقد كوَن عادات يومية عشتها معهم ،أماكن تعودت التردد عليها برفقتهم ،أغنيات أحببتها معهم ،عطر ملتصق باسمهم،هواتف ،محادثات، تفاصيل دقيقة ارتبطت بوجودهم ،حين تتغير تلك الخارطة فجأة ستظل ترتعش كعصور يبحث عن رمل ساخن يستحم فيه.
مع إن العلم غير رحيم ولاعواطف له ومجرد وقاسٍ وقاطع إلا إنه يصر على إنها سبع سنوات من الضياع حتى تتبدل خلايا دماغك القديمة بأخرى وليدة للتو لاتعرف شيئا عنهم ،عندها فقط ستشعر بأنك التقيت بذاك الكائن الأسطوري المسمى بال (نسيان).
عندما التقى الدكتور الطبيب الشاعر إبراهيم ناجي بالفتاة التي أحبها بعد سنوات طويلة بصدفة غريبة وهو يقوم بمحاولة تخليصها من ولادة متعسرة وكان وجهها مبرقع، فلم يتعرف عليها ، إلا بعد أن كشفوه كي تستنشق بعض الأوكسجين ، حين عاد لبيته جلس على السلم وأجهش بالبكاء ثم بدأ بخط أول أبيات رائعته (الأطلال).
يافؤادي رحم الله الهوى كان صرحا من خيال فهوى
أسقني واشرب على أطلاله وأروِ عني طالما الدمع روى
ثم يقول في موضع آخر منها :
ويراني الناس روحا طائرا
والجوى يطحنني كطحن الرحى
لكنك لو سألت مهاجرا هرب من عشرين عاما من ذكرياته قاطعا المحيطات ،يلتحف الثلوج والغربة ،أنسيت أم مازال الحنين يلسعك؟!
أيراودك الوطن في أحلامك؟ ،طريق المدرسة،وجه أول فتاة أحببتها، يأتي راكضا نحوك كوعل يخرح من أقاصي الليل والأفق البعيد ، تلك التفاصيل المنسية ،ذكرى تصفع وجهك وطيف من يوم منسي ، قفزاتك في شوارع الحي وأنت تلهو فيه طفلا لايفقه شيئا عن الحدود وجوازٍ ممزق ولجوء لغابات خضراء أو بلد يندف ثلجا يتركه ممزقا بين ماض لايموت من وجوه مضببة ورذاذ خفيف يطرق نوافذ الروح بين حين وآخر ، وحاضر لاينتمي إليه ؟!
أنسيت واستبدلت رأسك بآخر يحمل خلايا فتية فارغة من كل عطر وطيف وصوت وذكرى؟!! ، أم صارت أجمل ذكرياتك كوابيس تأرق مضجعك وتتركك في المنتصف ؟!!
أنسيت؟! أم أنت الوجع المخفي بالكبرياء والدموع الحبيسة ؟!
أم بطل لوحة( الصرخة ) للرسام ادفارت مونك ،يصرخ فتشق صرخته الأفق لكن دون أن ينتبه إليه أحد !
أتغرق فيهم كما يغرق نهر بنعومة في مياه المحيط ؟! ، فارغا من كل شيء إلا منهم؟ !
تائه كأنك هامش أضاع متنه وتلاشى في غيمة من الغبار ؟!
أعتقد أن الجواب في بقية قصيدة (طائر الشرق ) لعمر الحديثي ،،حيث تقول :
وأبحرُ في الدُّجَى .. أُبحِر
وتَشربُ حَيرتي الأبحُر
وأنسى أنني قد عُدتُ
لا أقوى .. ولا أقدر
وما عُدتُ الفتى الأقوى ..
ولا الأقسى
الذي تنهدُّ في كفيهِ
كلُّ مصاعبِ الدُّنْيَا
وإن تنظر إلى عينيهِ مبتسماً
تخالُ كأنهُ بالهَولِ
لم يَشْعُر ..
ولم يَعبا
غزَتهُ قوافلُ الأيامِ
تُشعِلُ رأسَهُ شَيبا
فأمسى كيفما شاءت
رياحُ سنينه مالت
تُحاكي قصدها أطرافُهُ التَعبى
ولا ينسى !
أعبُّ الهمَّ لو حدّثتُ ذاكرتي
وأحسو خمرةَ الأكدارِ
كالملهوف ..
كأساً تسبقُ الكأسا
وأحلمُ أنني عمّا قريبٍ أُدرك الشاطي ،
ولا مَرْسى ..
أصيحُ بكُلِّ تاريخي الذي
أودَعتهُ بأسي ،
وكُنتُ لبأسهِ بأسا
فيخذلُني الصدى بالصمتِ ،
يهزأُ لو رأى وَهني ..
ويسمعُ صيحتي همسا !
ويوقن أنني أمسيتُ
لا أقوى ، ولا أقدِر
فيوغلُ في تعنُّتهِ
الذي أخفاهُ لمّا كان يسجدُ لي ..
وبي يَكفُر
نعم .. أسفِر ..
أتى ما كنتَ منتظراً ،
وأنفاساً ،
حبستَ بصدركَ الموغورِ أعواماً
أرِحها في مهبّ الريح ،
أطلِق سجنَها .. وازفِر
فمن تخشاهُ يلجمها
و يُحكمُ حبسَها ، ما عادَ
يقوى ذاك ، أو يَقدِر ..
وَلَيْسَ لَهُ على الشُطآن
لا مرفا .. ولا مَرْسى
يُعاقرُ كأسهُ نَهِماً
ويحلمُ أنّهُ يَنسَى ……….
ولا يَنسَى !