في صيف عام 2020 كنت عائدا للقاهرة بعد حضوري مؤتمر طبي دولي بإحدى الدول العربية، والذي استضاف عددا كبيرا من جهابذة الطب وأساطينه في التخصص من كافة أنحاء العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ووسطا!
وشهدت كالمعتاد في مثل هذه المؤتمرات الأممية وما أكثرها، عددا قليلا من الأبحاث ذات القيمة التي أضافت جديدا بالفعل من طراز “مكر مفر مقبل مدبر معا”. أما بقية الأبحاث التي اكتظت بها أيام المؤتمر وجلساته فكانت تكرارا للقديم، من طراز “لزوم ما لا يلزم”. ورغم ذلك تكون أحيانا مفيدة لشباب الأطباء في أول الطريق أو منتصفه، لكنها بالقطع ليست لطبيب قديم مثلي عرك مسالك الطب ودروبه، وسبر أغواره حتى اشتكى منه الزمان والمكان.
المهم ذهبت للمطار الأنيق، وقمت بانهاء إجراءت السفر الروتينة التي بت أقوم بها مغمض العينين أصم أبكم! وذلك من كثرة المطارات التي خضت عبابها على مدى العمر.
وتم وزن الحقيبة الوحيدة التي أحملها، وتسلمت تصريح الدخول للطائرة، ولم تبق إلا ساعة على موعد الإقلاع. وكعادتي لم أذهب مباشرة لمكتب الجوازات لإنهاء إجراءات الخروج، ثم أتوجه لمنطقة انتظار الركاب. ولكني كنت أتجه مباشرة لاستراحة ركاب الدرجة الأولى ورجال الأعمال حيث أسافر دائما على الدرجة الأخيرة. وتكون هذه الاستراحة في مطارات العالم كله، متسعة وتحتوي كل شيء مما لذ وطاب، طعاما وشرابا في المطعم المفتوح، وشاشات وأفلام حتى للأطفال، بالإضافة للمضيفين والمضيفات بملابسهم الأنيقة الذين يطوفون بالمشروبات والشيكولاته، وتلبية أي طلب، فربما يكون من بين الركاب من لا يستطيع المشي للمطعم فيأتون هم له!!
وهناك أيضا شاشة وميكروفون للتنبيه عن الطائرات على وشك الإقلاع، ليتوجه ركابها للجوازات، ومن ثم لباب الخروج للطائرة، لتستقبلهم مضيفات الدرجة الأولى جدا اللاتي يشيرون لهم لمقاعدهم الوثيرة قبل الإقلاع بدقائق.
لكني وأنا في الاستراحة لم أسمع لطائرتي حس ولا خبر، ووجدت الساعات المعلقة في كل مكان تشير لقرب موعد الإقلاع، فقمت غير مهتم ولا آبه بتنيه ولا غيره، وختمت الجواز واتجهت لباب قاعات الإقلاع، فاستوقفني الموظف وهو يقلب تصريح الدخول للطائرة، وفاجأني بقوله أن هذه الطائرة قد أقلعت بالفعل منذ دقائق !!!
مفاجأة من العيار الثقيل ومن طراز ” على قدر أهل العزم تأتي العزائم”، لم أجد ما أقوله وأنا “أبحلق” في الرجل بحلقة شديد، وقد احتبس الكلام والسلام من طراز “بالنظرات، باللفتات، بالصمت الرهيب” !! حتى أشار لي أن أذهب لمكتب ضباط الجوازات !!
واتجهت لهناك ببطء مطأطئا، وكأني أبحث عن شيء وقع مني على الأرض، أكاد أغني ( في يوم في شهر في سنة)!
واستقبلني ضابط المكتب بوجه بشوش، واطلع على جواز السفر وتصريح الدخول للطائرة، وطلبت منه الخروج من المطار للفندق لأحجز طائرة أخرى غدا. لكنه قام بإجراء اتصال وأعقبة بابتسامة عريضة، وأخبرني أنه لا يمكنني الخروج من الجوازت حتى تهبط الطائرة بعد ساعات في مطار القاهرة، ولابد من بقائي خلال تلك الفترة باستراحة الركاب المنتظرين للسفر !! ولما استفسرت علمت حقيقة الأمر المفزعة، فعدما يشحن راكب حقائبه في طائرة، ثم لا يسافر مع الطائرة، يكون هناك شك أن الحقائب ملغمة تحمل متفجرات تسقط الطائرة في الجو!! وعليه فيتم احتجاز الراكب حتى تصل الطائرة لمطار الوصول دون أن تتفكك أو تنفجر! ثم يتم فحص الحقائب هناك، وإذا وجدت سليمة يتم الإفراج عن الراكب صاحب الحقائب المحتجز في مطار السفر!؟ يعني لابد من احتجازي بالمطار باشتباه قوي أنني قائد عملية إرهابية مخطط لها جيدا، حتى تصل الطائرة سليمة للقاهرة.
وعندما رأى الضابط علامات التعجب والعجب والانزعاج تنتفض من وجهي قال إن هذا إجراء روتيني معتاد ويحدث كثيرا، خاصة لركاب الدرجة الأولى ورجال الأعمال الذين تفوتهم طائراتهم وهم في استراحتهم، ولا ينتبهون للنداء، فلا تقلق وتفضل بالذهاب للاستراحة حتى ننادي عليك.
وبذلك اتضح أمامي مدى الموقف الهائل الذي أواجهه، وذهبت للكافيتريا لأقضي الوقت هناك حتى تصل الطائرة المباركة المجيدة للقاهرة.
وبعد قليل انتابني شعور مفاجئ بالرعب والذعر والهلع، فماذا لو سقطت الطائرة أو انفجرت لأي سبب من الأسباب، إن كانت فنية أو بالفعل نتيجة عملية إرهابية أو غير ذلك ؟؟!! ساعتها سيكون النهار المشرق أسودا داجيا كالكحل، يعقبه نهار آخر من طراز “وإذا الفجر مطل كالحريق”. وبالقطع سأضطر للاعتراف بالعملية كلها بجميع تفاصيلها، لأنه كما هو معروف عن طرق الاستجواب في مثل هذه الحالات في جميع دول العالم بلا استثناء، تتبع أسلوبا موحدا علميا تصاعديا غير مهذب بالمره، من طراز “هاتتكلم هاتتكلم”!!
فهنا وكعادتي في مثل هذه المواقف الساحقة الماحقة ألجأ للطرفة والسخرية واستجداء الابتسامه علها تخفف عني وقع المصيبة. وبما أنني مشتبه بي كإرهابي من العيار الثقيل، فلابد أن أكون تحت المراقبة الدقيقة بالكاميرات وغيره من وسائل المباحث والمخابرات، فلم لا أزيد من هذا الشعور عند من يراقبوني والذين منعوني من مغادرة المطار؟!
وقد كان، وذهبت وجلست في مقعد من مقاعد الركاب، وبدأت في عمل أشياء غامضة تثير الريبة والشك والقلق، وتجعل وسائل المراقبة مفتحة العينين والأذنين بدرجة طوارئ قصوى. أخرجت قلما من جيب البدلة ووضعته على كتفي ورحت “أوشوشه” وكأنني أتحدث مع شخص ما من أعضاء المجموعة الإرهابية الدولية! ثم خلعت الحذاء واستبدلت الجورب في القدمين، وجعلت جورب القدم اليمنى في اليسرى والعكس!! حاجه عجيبه جدا !! ورحت أسير في المكان هنا وهناك وأنا أنظر مليا للسقف مثبتا نظري عليه، ثم أنظر فجأة خلفي في حركة رأس سريعة وكأني أتاكد من وجود مراقبة من عدمه !! وغير ذلك من أشياء تثير الريبة والقلق وتحرك الحجر.
وانتظرت ردة فعل أهل الرقابة، وهو ما حدث بالفعل واقترب مني جندي وسألني أن أصحبه لمكتب الضباط ! وهناك لم يحدث أي شيء، غير أن الضابط طلب مني البقاء في الغرفة المجاوره لمكتبه، وبها كنبة يمكنني النوم عليها حتى ينتهي الأمر. وتعجبت عجبا شديدا، فرغم هذا الاشتباه الخطير، لم يقم أحد بتفتيشي أو بفحص القلم الذي كنت أوشوشه!! ربما كانت لهم وسائل أخر ى فوق بنفسجية لاكتشاف ذلك.
ساعات ثقيلة قضيتها حتى انتهى الأمر بالفعل، وأخبرني الضابط أن الطائرة هبطت بمطار القاهرة سليمة شامخة، وتم فحص حقيبتك وكانت سليمة، ويمكنك تسلمها من مكتب الأمانات بمطار القاهرة عندما تصل هناك، ونحن نعتذر عن هذا الإزعاج الملزم قانونا !!
وخرجت من الجوازات، وحجزت في صالة المطار مقعدا في أول طائرة مسافرة للقاهرة، وكانت بعد 6 ساعات، قضيتها أيضا بالمطار، ولكن ليس في قاعة الدرجة الأولى ورجال الأعمال الملعونة المزدحمة بالإرهابيين، وجلست في كافيتيريا المطار العادية الخاصة “بالغلابة” من خلق الله من طراز “لقمة هنية تكفي ميه”.
ووصلت للقاهرة، وتسلمت الحقيبة، وكان من الواضح أنها تعرضت لعملية جراحية استهدفت كل أحشائها وأطرافها وأقربائها من الشنط ذات الصلة والنسب!!
وخرجت أخيرا من مطار القاهرة وأنا أتلو دعائي المعتاد كلما خرجت منه “اللهم لا تكتب علي السفر من أي مطار مرة أخرى”، وهو الدعاء الذي لم يستجب له الله عز وجل حتى الأن لحكمة عنده، حتى بت مسافرا دائما من طراز “مسافر زاده الخيال” …
ولله الأمر من قبل ومن بعد …