تتضمن الثقافة في إطارها الجامع ألوانًا من الأدب والفنون والعلوم، ناهيك عن التراث واللغة والعادات والتقاليد، والقوانيين، والأعراف، وهذا في مجمله ما يكون الهوية التي تعضد ماهية الولاء والانتماء، ومن ثم يتحقق الأمن والأمان في أبعاده المختلفة، وتصبح الشعوب ومجتمعاتها لها تفردًا يشكل الحدود الفاصلة فيما بينها في إطار الثقافات، بغض النظر عن الاندماج المؤقت أو صورة التلاحم التي نرصدها.
وهويتنا المصرية لها طابع خاص يتسم بالمحافظة على النسق القيمي الممزوج بالخبرات التاريخية واللذان يسهمان في تشكيل الوعي المساعد في صنع الإدارة التي من خلالها يرسم الفرد ملامح رؤيته المستقبلية ويسعى بصورة مستدامة على أن يصقل خبراته ويعضد ما لديه من ملكات؛ فتصبح له شخصية مستقلة مستمدة من تراثه الثقافي وملامح الشخصية القومية.
وقوميتنا المصرية تشكل العامل المشترك الأكبر في حفاظ شعبنا العظيم على موروثه الثقافي والحضاري؛ فمن خلاله نعتز ونفتخر، ومن أجله نضحي، وبواسطته نحقق النهضة ونسعى للرقي، ومن خلاله نضع المعايير التي تضمن أن نعلي من مصلحة الوطن ونعمل على تحقيق غاياته، كما نحارب من أجل بقاء المعتقد في الوجدان خالدًا؛ فلا نتقبل الضيم ولا نقبل التهديد ولا نسمح بتجاوز أو مساس برموز الدولة.
إن ثقافتنا تُعد البصمة المميزة التي تعيننا على التصدي لكافة المتغيرات أو المحاولات التي تستهدف طمس هويتنا أو تغييرها أو إضعافها، بل وتحثنا بضمير جمعي على أن نصطف خلف الوطن لنعلي من قدره ونحمي مقدراته وندافع عن ترابه، ولهذا شواهد وأدلة نرصدها في قوة نسيجنا الذي يدعمه منظومة القيم النبيلة التي يتبناها مجتمعنا المصري؛ فالجميع يرصد المحبة الشائعة بين أطياف المجتمع، وصورة التكامل وحالة الإيثار وقوة التحمل والعزيمة في بلوغ الغاية.
والثقافة المصرية على وجه الخصوص لا تقبل المزج أو الدمج أو الانصهار في بوتقة ثقافات أخرى مهما طغت في انتشارها وهيمتنها وتمويلها ومنهجيتها القائمة على منهجية السيطرة؛ لأن الثقافة المصرية تستند على تاريخ وحضارة متجذرة؛ فيصعب أن تتوافر مقوماتها لدى الآخرين، ويستحيل أن تستحوذ أفكار مستوردة على من يمتلك نسق قيمي تمخض عن عقيدة راسخة وعادات أصيلة.
لكن هذا لا ينفي صور المحاولات التي تستهدف الاستحواذ على ثروات الأمم والشعوب والكامنة في عقول شبابها؛ حيث تعمل بحرفية ومنهجية على إضعاف ماهية الهُوِيَّة القومية لديهم؛ لتنتزع سياج الحماية وتستبدله بفلسفة النفعية وتلبية الاحتياجات الآنية والمطامع الدنية التي تقوم على الغريزة في إطارها غير المنضبط؛ كي ينجذب لمفرداتها من لا يمتلكون الإدارة والحكمة والعقل الرشيد والوعي السديد.
وللأسف هناك من بني جلدتنا من يروج لنشر الثقافات المستوردة بوسائل مغرية ومتلونة تسحر ضعاف النفوس وتستميل ذوي الهوى، وتبدأ بفكرة التوليف بين ما نؤمن به من قيم وما نقره من سلوك وبعض التقاليد المستغربة على مجتمعاتنا، وهذا بمثابة النقل التدريجي لأفكار تلك الثقافات؛ حيث نتقبل بعضًا منها تحت شعار مواكبة التطور والحداثة، ونرتضي بعد وقت قصير نتاجاتها التي قد تبدو واضحة في سلوكيات حياتية اعتيادية مثل المأكل والمشرب والملبس.
وعلينا أن نستفيق ونستخدم من الآليات ما نعضد به تراثنا الثقافي بما يحويه من مكونٍ مميزٍ وفريدٍ ونادرٍ له دورٌ في تنمية الوعي الثقافي؛ فجانب المحتوى التعليمي الذي يظهر ملامح التاريخ وعصوره نستطيع أن ندفع بأبنائنا إلى المزارات السياسية المنتشرة في ربوع الوطن؛ فيطالعون الثقافة المصرية في عصورها المختلفة بدايةً من العصر الفرعوني وانتهاءً بالعصر الحديث، ناهيك عن اللمسات التطويرية التي قامت به الدولة المصرية في الآونة الأخيرة بفضل رعاية وتوجيهات القيادة السياسية التي استهدفت الحفاظ على التراث الثقافي والهوية وتنشيط السياحة التاريخية.
ويتوجب على مؤسسات الدولة أن تبرم من الشراكات ما يسهم في نشر الثقافة ورسالتها التي تكمن في التوعية الثقافية لبلادنا المجيدة صاحبة التاريخ والجغرافية التي أكدت في مواقفها أن العزة والقيم النبيلة هما مكون رئيس لثقافتنا التي حوت حضارات متعاقبة على مر التاريخ، وفي خضم ذلك استطاعت مصرنا الحبيبة أن تتناقل فنونها وعمارتها من جيل لآخر.
وما أجمل أنشطة ثقافية ذات طابع تاريخي تجعلنا نبحر في مهد حضاراتنا الفرعونية، والإغريقية، والرومانية، والقبطية، والإسلامية، وعبر تلك الحضارات نظهر أصالة ثقافتنا، وبحورها الراسخة التي تؤكد قوة وصلابة هذا الشعب الذي تواصلت واتصلت وانتصرت عاداته وتقاليده، وأكدت على فلسفتها الكامنة في الاندماج الاجتماعي بين أطياف المجتمع المصري الذي لم يتغير ولم يتبدل رغم ما مر به من متقلبات يصعب حصرها وسردها.
ما أروع أن تصطبغ تلون الأنشطة التعليمية بمهام ذات طابع ثقافي يظهر قيم الولاء والانتماء وماهية المواطنة لشعب له عمقٌ تاريخيٌ أصيلٌ؛ فمن خلالها يصبح النشء قادر على صون مقدراته لديه اتجاهات إيجابية نحو النهضة والرقي، يمتلك فكرًا مستنيرًا حيال كل موروثٌ؛ فلا يقبل تبديله أو تغييره مهما تفاقمت متغيرات التزييف للحقائق والبنى المعرفية؛ حيث إن الوجدان يحمي الهوية الوطنية؛ فنحقق ماهية الأمن القومي المصري في بُعده الثقافي.
نتطلع لأن يحدث تناغمًا بين الجانب الثقافي والتقني؛ فندعم تلون الفنون الثقافية التي تحي دواخلنا وترفع من معنوياتنا وترقى من وجدانياتنا وترفع من قيمة الفنون وتحث على مزيد من الإبداع، وتقوي من روافد صناعة المعرفة التي تسهم في إحداث التنمية المنشودة بشتى المجالات؛ لذا بات حداثة تقديم المنتج الثقافي مرهون بتوظيف صحيح للتقنية والقادرة على الولوج بسهولة للعالمين الافتراضي والحقيقي؛ فنصنع مهرجانات ونقيم احتفالات ذات صابع ثقافي يحقق العائدين المادي والمعنوي على حد سواء.
ونترقب لاستثمار حقيقي لثقافات حضارتنا الدينية في ضوء ما تمتلكه الدولة من متاحفٍ ومعابدٍ ومساجدٍ وأديرةٍ وغيرها وما تحويه من مقتنياتٍ عزيزةٍ وغاليةٍ؛ فنمكن العالم بأسره لأن يراها ويكاشف أسرارها عبر جذب سياحي بآليات السياحة الافتراضية التي يتمخض عنها زيادة الوعي ومن ثم كثافة الإقبال على تلك الأماكن التي تحمل عبق وعظمة ثقافتنا المتفردة.
دعونا نرى مشاهد تبهر العيون وتملء الوجدان بهجة والأفئدة فرحًا والقلوب سعادة لصورة الثقافة المصرية التي تزخر بتراث ثمين نفخر ونعتز به ويجعلنا جميعًا نحافظ على ما لدينا من نفائس تعبر عن أصالة هذا الوطن وشعبه العظيم المحب للحياة والإعمار والقادر على التغيير إلى الأفضل؛ فلا تعجزه تحديات ولا تقهره أزمات ولا تقف في طريقه معوقات.
إن العمل الدؤوب من وزارات ومؤسسات الدولة تجاه قضية بناء الإنسان وتعضيد الولاء والانتماء المخفوق في بوتقة الفخر والعزة والكرامة يؤكد على أن الرسالة واضحة؛ فلا مناص عن هُوِيَّتنا المصرية الأصيلة التي تعد سياج الأمن القومي المصري دون مواربة.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر