يعتبر الموت من أعمق المواضيع وأكثرها جدية، وقد رافق التفكير فيه الإنسان عبر تاريخه الطويل، بل هناك من يذهب إلى أن الحضارة الإنسانية نفسها وليدة التفكير في الموت، الذي أرق الإنسان منذ طفولته البدائية الأولى، واستمر هذا الأرق مرافقا له في كل مراحل حياته، وقد تجلى هذا الانشغال بالموت بداية في الأساطير الأولى التي وصلتنا من الحقبة الموغلة في القدم، أقصد أساطير البابليين، وتحديدا أسطورة جلجامش ، التي تتميز بكثير من العمق والنضج في تناولها لظاهرة الموت والرهاب الذي يسببه التفكير فيها، وقد أجاد مبدعها أو مبدعوها المفترضون في رصد التحولات النفسية والوجودية العميقة التي أصابت بطلها جلجامش حين اختطف الموت صديقه أنكيدو ورفيقه في صراعه ضد الوحوش الضارية وفي الحروب ضد البشر.. لقد وجد جلجامش نفسه فجأة وجها لوجه أمام الموت، هذا المصير المأسوي الذي يتربص بكل الكائنات، ولا يمكنها تجنبه مهما اجتهدت في ذلك، بيد أن جلجامش الطموح والقوي والمختلف شاء غير ذلك، وسعى إلى الانفلات من هذا المصير بالعثور على نبتة الحياة، بعد أن أخبرته العرافة بأنه سيعثر عليها في دياجير الأعماق المظلمة.. خاض جلجامش مغامرة الحصول عليها رغم الصعاب والأهوال التي لا يتحملها بشر، واستطاع –في نهاية المطاف- الحصول عليها، لكنه في طريق العودة من العالم السفلى خاتلته الأفعى وسرقت منه النبتة الأسطورية العجيبة.. تحسر جلجامش بسبب ذلك حسرة كبيرة، أثقلت على نفسه وأصابته بالغم ، لكنه –بالمقابل- فهم الدرس جيدا، ومفاده أن الخلود الجسدي مستحيل، وأن الإنسان يمكنه تحقيق هذا الخلود بشكل مختلف، أي الخلود المعنوي، من خلال ترك أثره القوي في هذه الحياة، وهذا ما تحقق له بالفعل، فأصبح جلجامش خالدا في الذاكرة الإنسانية، خاصة من خلال هذه الأسطورة الرائعة.
لقد قارب الكثير من الفلاسفة والمفكرين موضوع الموت بطريق متنوعة، فاتفقوا واختلفوا حوله، فمنهم من حسم أمره قائلا بأنه ليس معنيا بالموت، فحين يكون حيا لا يكون الموت متواجدا وحين يحضر الموت يختفي هو، إذن فلا معنى لانشغاله به، وهناك من حل الإشكال بطريقته واعتبر الموت نوما طويلا بدون أحلام، وهناك من اعتبر الخوف من الموت عبثيا ولا معنى له، لأننا منذ ولادتنا ونحن نموت بالتقسيط، ولا تكون مفارقة الحياة سوى المحطة الأخيرة في رحلة الموت، كما أن هناك من اعتبر انشغال الإنسان بالموت نتيجة لأنانية مفرطة وحب مبالغ فيه للذات، نتيجة توفره على العقل، في الوقت الذي تقبل فيه الحيوانات هذا المصير بكثير من الاستسلام ودون أوهام.
الأديان من جانبها اهتمت بالموت بشكل استراتيجي وعميق، حتى أن هناك من يظن أن سؤال الموت هو المبرر الأساسي لوجود هذه الأديان باختلاف مصادرها، وقد استطاعت بالفعل حل إشكال الموت بالنسبة لأتباعها، فأقنعتهم بأن الأمر لا يستحق الخوف، إذ أننا حين سنموت فقط سنغلق أعيننا هنا لنفتحها هناك، وقد راق هذا الحل السحري الجميل للكثير من المؤمنين، الذين يقبلون-نتيجة لذلك- لحظة النهاية بابتسامة موحية، وكأنهم يسخرون من الموت، ولسان حالهم يقول :” موعدنا هناك في الضفة الأخرى”.
وقد توقف الفلاسفة بشتى توجهاتهم عند ظاهرة الموت، وقاربوها مقارابات متعددة ومختلفة، وفي رأيي المتواضع إن الفلسفة الوجودية المنبثقة عن الفنومينولوجية أو الظاهرتية كما يترجمها البعض تعد الأكثر ملامسة للموضوع، كما يعد طرحها الأكثر رواجا وتأثيرا، حتى وإن كان متشائما، وغالبا ما يدفع بأصحابه نحو الانتحار، وهو طرح يرتكز على الحرية والشجاعة في مواجهة الوجود والعدم أي الموت، حتى أن الانتحار عندهم يعد تعبيرا عن قوة الإردة وحرية الاختيار، ولا يعتبرونه ضعفا وجبنا.
أما موتي الشخصي فأفكر فيه باعتباره انتهاء صلاحية لا بد منها، وأتوقع أنني سأقبله راضيا وبدون أوهام، مقتنعا أنه يتعين على جيلي فتح المجال لجيل جديد كي يتابع مسيرة الإنسانية المجيدة أو البائسة، ويكفينا أن نكون –كما قال أحدهم- جسرا يعبره الآخرون نحو المستقبل.
كاتب مغربي