في إحدى أيام شهر نيسان الدافئة….التقيت بأحدهم، كان يبدوا عليه الوقار والهيبة، يغازل سيجارته برشفات من القهوة بكل هدوء، كان المكان مزدحما،لم أحظى بطاولة للجلوس،فقررت مغادرة المكان ، إلى وجهتي المعتادة (ورشة الرسم)،حينها سمعت صوتا ثابتا يملأ الحزن نبراته، تغضلي هنا سيدتي المحترمة أنا سأغادر، اعتذرت عن الإزعاج قائلة شكرا لك لا داعي لذلك لأني مستعجلة، أشكر لك جميل ورقي ذوقك
غادرت المطعم وسرت بخطى متثاقلة إلى مرسمي أو دنيا الألوان كما يحلو لي تسميته.
شعرت بخطوات سريعة تلحق بي فحاولت تغيير وجهتي إلى…….لكني تفاجأت به يقطع طريقي بجسمه الرياضي وطوله الممشوق، أعتذر منك سيدتي الجميلة لكن لديا سؤال بسيط ،أين تقع ورشة الرسم الخاصة بالاستاذة (هدى)؟….عفوا هل تعرفها ؟هل أنت من اقرباءها؟ …. أجابني قائلا لا أنا أبحث عنها لأجل عمل يخصني،نعم تفضل معي سأخذك إليها،لم تكن سوى دقائق قليلة وصلنا إلى المكان المطلوب، طلبت منه الدخول، اعتذرت عن الفوضى التي تعم المكان، ابتسم لي بلطف قائلا لا عليك مكان جميل،والفوضى التي به أجمل ،تفضل بالجلوس سأحضرلك القهوة، كيف هي قهوتك؟…أريدها بدون سكر شكرا على لطفك ،
هل ستتأخر الأستاذة هدى؟ لا لا تقلق هي في طريقها إلى هنا ،هل من خدمة؟….أخرج من جيبه صورة ممزقة كان يمسكها بحب وبحذر قائلا أريد منها أن ترسم هذه الصورة لتعود كما كانت قبل الحادثة! لم يستطع أن يكمل كلماته لأن دموعه كانت سباقة لتروي باقي القصة ، أخذت الصورة منه كانت لفتاة فائقة الحسن والجمال، ذات شعر بني وعينان زرقاوان ، كأنها قطعة مهربة من العصر الفيكتوري، سألته لماذا هذا الحزن هل هي ابنتك؟أين هي الآن ؟ ربما أستطيع مساعدتك في العثور عليها.
اخبرني …بهذه الكلمات بصوت مهزوز ونبرة متحسرة
قائلا…..
أنها زوجتي وصديقة طفولتي ……ورفيقة عمري، لا أدري ما الذي حدث حتى وصلنا في علاقتنا إلى مفترق الطرق ،وأصبحنا غريبين رغم كل الحب الذي كان يجمعنا، أنا أحمد طبيب أسنان أعمل بإحدى دول الخليج وهي خريجة كلية الآداب قسم فلسفة كانت تعشقني حد الجنون،
كانت تحادثني باليوم مئات المرات
اربع و عشرون ساعة تقريبا، تتصل بي كل خمس دقائق ،تخاف عليا لحد الهوس ، وتعاملني كطفل صغير .. أحيانا !
أين أنت؟
هل أكلت؟ هل غسلت ثيابك؟ هل رتبت غرفتك ؟ الجو بارد هنا أحضر غطاء وشغل المدفأة
لا تنم قبل أن تنظف أسنانك
لا تنسى أن تأخذ دعائك….
اصحوا من نومي …..على صوتها حبيبي إنها صلاة الفجر هيا قم وتوضأ…….
أفتح هاتفي يا إلهي لقد أرسلت..عشرات الرسائل
نم جيدا …. لاتضيع وقتك في إشعال السيجارة ….لا حاجة لك بها ، كانت ترافقني في كل خطوة، لم تفلت يدي يوما،حين أخبرها اني أريد الاستيقاظ باكرا وأخاف أن أتأخر في النوم تقول
أنا سأتصل بك حتى تصحوا..!!
سأظل مستيقظة، لا تقلق أنا معك
حين أترك هاتفي وأكون منهمكا في عملي ….أسمع صوت الرسائل بإلحاح شديد أمسكت بالهاتف نظرت إليه أجدها قد أرسلت ….عشرة…. عشرون….ثلاثون رسالة وصلتني منها
أرسل لها رسالة كيف حالك….كيف كان يومك….ترد عليا بوابل من الكلمات….الرقيقة كقولها لي..
أنا اتعافى بوجودك معي
لم أستطع النوم..ليلا
لأنك كنت رفيقي في أحلامي
سألتها هل هناك شيء تودين قوله لي؟
ردت بصوت أشبه بصوت الكمان
ينقضي الأرق والتعب وانت معي….هكذا كانت ابنتي نعم كنت اناديها ابنتي وهي تناديني بابا الغالي…..لم تمل يوما من كثرة حديثي معها…. وكثرة سؤال، وتذمري….أعترف أني كنت انانيا بعض الشيء أخذت منها الكثير
الهدوء ….
الطمأنينة …..
السكون…..
المودة……
الرحمة …..
الاحتواء…..
الطاعة…..وقولها دائما لكلمة (حاااااااضر )حتى لو لم تكن ترغبها تقولوها لإرضاء
نعم أحببتها كثيرا….أو ربما أحببت اختلافها عن بنات حواء
كانت استثنائية في كل شيء
كانت تغدقني بالحنان والفرح
لطالما أخبرتني أنها تحبني وأنها لم تحب أحدا غيري…كانت صادقة في كل شيء ….تحب تفاصيلها الصغيرة تفاصيل لا أنكر انني مللتها في كثير من الأحيان….كنت اتجاهلها…..وابتعد عنها متعمدا لأنني ببساطة كنت شديد الثقة انها لن تتركني اتصلت بي ذات يوم تريد إخباري بأنها ليست بخير ….
كانت بحاجة لوجودي معها…. وكلام طويل.. لم أقرأ منه سوى بعض كلمات…..تحججت بضغط العمل ومنصبي الجديد وكالعادة ذكرتها انها تحب افتعال الأزمات والمتاعب لا اكثر ….
تغار عليا كثيرا حتى من نفسي ،
كانت لها كلمة واحدة ملازمة لها
انت ملكي انا ….انت لي فقط لاتريد أن أنظر لإمرأة سواها. كأنها تريد بغيرتها أن تقول لا أحب أن يقترب احد من بممتلكاتي.. الخاصة!! مر وقت طويل نعم إنها عشر سنوات مدة طويلة أعرف تحملت مني ما لم تستطع إمرأة غيرها كانت معي ولي تلازمني كظلي كنبضي…
في لحظة ثقة..وطيشوتكبر وجبروت مني خسرتها…نعم لقد خسرت من كانت تناديني ب(غذاء الروح ) واصبحت جرحها.العميق الذي لا شفاء منه لقد رحلت وتركت لي هذه الصورة الممزقة هدية قاسية من امرأة كم أبهريني بعطائها.
تساؤلات كثيرة كانت تجتاحني كيف لها أن تكون بهذه القوة الهائلة؟!
تتجاوز كل الصعاب رغم الإرهاق والتعب، كيف استطاعت أن تزهر بعيدا عني …. كيف أنها لم تعرف معنى الذبول في غيابي الطويل،
تستحق من الأمنيات أجملها..
ومن الحب أصدقه،
كنت أنتقد كل شيء فيها لاهتمامها المفرط بي ، لأسئلتها الكثيرة، لرسائلها التي لا تتوقف ، لنوبات خصامها و وأحاديثها اللامتناهية..
ذات يوم زرت طبيب مختص فأخبرني انني……
صرت أنام تحت تأثير المهدئات لكي اقاوم ارقي وأصحوا على صوت المنبة ، لم أعد أعرف مواعيد الأكل،مواعيد الدواء، حتى في صلاتي لم أعد منتظما ،أشتاق لها كثيرا…أتذكرها بشدة …
رسائلها
كلماتها…..اإهتماماتها الكثيرة بي ، كانت رائعة من روائع الزمن الجميل حلما جميلا
خسرمتها ورحلت
لأنني لم أعرف قيمتها وأهملت قلبها .
هذه قصتي. . قصة قلب اغتاله الإهمال.
الجزائر