**هذا المقال يعبر عن علاقة خاصة بيني وبين والدي رحمه الله وقد كان الرجل الطيب يعتبرني صديقا له ويغرس في داخلي مبادىء وأساسيات ومسئوليات الابن البكري والذي تعتبره الكثير من الأسر نائب الأب إذا ما غاب لسبب ما والحمد لله أعتقد أنني لم أخيب ظنه في ..على الأقل..انتهيت من دراستي الجامعية وأنا لم أتجاوز التاسعة عشرة من العمر وحصلت على لقب أصغر طالب في الجامعة..
ومن أجل أولادي وأحفادي وأصدقائي وأسرهم ..أحاول التنقيب في خزائن الذكريات من حين لآخر..لأتحدث عن مواقف مهمة جمعتني بوالدي الأزهري ..صاحب الأولاد التسعة..الذي اعتبرهم الإنجاز الأول في حياته ..حتى انتقل إلى رحاب الله..
**كان والدى الغالي- المرحوم باذن الله- من الرجال الصالحين.. المؤمنين بقيمة العمل الشريف.. والساعين إلى الرزق فى أرض الله الواسعة.. يبذلون جهد الاستطاعة فى تلبية احتياجات الأسرة والأبناء.. وكان أبى مسئولا عن اطعام تسع أفواه.. أنا أكبرهم.. وتوفير ما يمكن من مطالب الحياة.. يساعدهم فى اتفاق غير مكتوب على تحقيق الحلم الذى اختاره كل منهم.. بشرط الاعتماد على النفس.. فى المذاكرة وإدراك النجاح.. لم نعرف أبداً الدروس الخصوصية.. أو المساعدات الخارجية.. رغم انه كان مدرسا بمعهد تحفيظ القرآن الكريم (المعهد الدينى فيما بعد) وكان يمكنه ان يطلب المساعدة ويحصل عليها بأريحية من زملائه وأصدقائه.. المدرسين.
**استطاع أبى باجتهاده واخلاصه وحبه لعمله.. ان يصبح سكرتيرا للمعهد بجانب تدريس اللغة العربية لتحفيظ الطلاب الذكر الحكيم.. وخدم قبل المعاش بسنوات ليست قليلة شيخا للمعهد.. وكانت آخر معجزاته ان صمم النعش الذى يحمل فيه على الخروج من المسجد بعد صلاة الجنازة.. إلى المعهد.. ليخرج من هناك إلى القبر.. المثوى الأخير.
لكى يسد أبى الأفواه المسئولة منه.. والتى وصفها فى ساعة صفا بالعمارات التسع.. ينافس مع نفسه فى أعمال جانبيه ومتعددة.. مثل الجمعيات الخيرية والامساك بدفاتر ورشة للبلاط.. وامتلك دائرة معارف واسعة.. بالعمل ليلا مع المأذون الشرعى للزيتون ثم مصر الجديدة.. كاتبا للعقود ومساعدا لهما يحمل الدفاتر أثناء الذهاب إلى أماكن عقد القران.
**ولأنه حرص على ان أصحبه فى هذين المكتبين.. حاملا كتبى وكراساتى للمذاكرة فى مكان هادئ ومنير.. فقد رأيت وعلمت انه كان لا يعود خاليا الوفاض مع الشيخ المأذون.. من نصيبه أحيانا المنديل الأبيض المغطى لمصافحة العريس ووالد العروس.. وعلبة الحلوى المعدنية أو الخزفية التى توزع بعد عقد القران وربما كانت المفاجأة مصحف شريف.. فى طبعة حديثة لمباركة الزواج.. وربما عاد باكرامية رمزية من الطرفين.. كان يحرص عندها على البحث عن محل فاكهة مفتوح الأبواب.. لشراء فاكهة الموسم للأبناء.
**وأثناء العودة إلى منزلنا فى شارع ماهر بالمطرية فيما أذكر.. مارين على مقابر تم إزالتها فيما بعد.. وتحولت إلى مساكن شعبية حديثة.. مليئة بالحياة.. كان أبى حريصا على تفريغ ملاحظاته على ما يراه.. لي.. وكأنه يتحدث إلى نفسه.. وكان حريصا ان يصل بالملاحظة إلى النهاية.. ويضع لها الحل المناسب.. مشيرا إلى ما تم الاتفاق عليه.. بين طرفى الزواج من الأسرتين.. وبحكم ثقافته كان يميل إلى البساطة والابتعاد عن التبذير.. وكيف ان العروسين لن يستفيدا من فرح بهيج.. بل يحتاجان إلى تفاهم رشيد.
**واليوم بعد ان مرت هذه السنوات الطويلة أجدنى أنظر إلى هذه الفترة من حياة أبى وكيف تشكلت فى وجدانه.. سلوكا مجتمعيا راقيا.. وبسيطا عند تعامله مع حالات الزواج فى أسرتنا الصغيرة.. شباب وفتيات وكيف حرص على حسن الاختيار والسيرة الطيبة.. والطلبات المعقولة الكافية.. لبداية سعيدة بسيطة لحياة زوجية ممتدة.. باذن الله.. بل حرص ان يفعل دون أن يقول.. فقام ببذل الجهد المشكور.. لتكون بيوتنا الجديدة.. قريبة من البيت الكبير.. ساعده على ذلك صداقته الممتدة لمعظم سكان الحي.. الذى مازلت حريصا على العيش فيه.. ما بقى لى من عمر باذن الله.
**واسأل الله سبحانه وتعالى الرحمة والمغفرة لأبى المكافح.. ومن هم على شاكلته من الآباء والأمهات وان تكون الجنة سكنهم يوم البعث العظيم.. أمين.
صالح إبراهيم