ربما أسهم ذلك جزئيا في الأمر؛ “إننا نفكر في الخجل باعتباره طبعاً متقلبا وذا سمة مزاجية. عندما يشرع الأطفال الصغار للغاية في التعامل مع الآخرين، يوجد اختلافات بينهم في مدى الارتياح الذي يبديه كل منهم في التحدث مع شخص بالغ لا يعرفه”. شاعت في العقود الأخيرة عبارات تشير إلى ما جدّ من أساليب التدخل الأجنبي في بلاد المسلمين وغيرها، حيث لم يعد ذلك التدخل استعماراً عسكرياً مباشراً، ولا بتوجيه بعض الفئات المتنفذة في هذا المجتمع أو ذاك للقيام بأعمال بعينها والتصرف وفق خطة موضوعة، عسكرية كانت أم اقتصادية أم غير ذلك. ولكن الأمر تجاوز هذا الحد إلى ما هو أدهى وأمرّ، إلى أساليب أكثر مكراً،
لا سيما بعد أن تكشّفت للمسلمين مناهج الاستعمار وأساليبه السابقة، وأخطر ما تفتق عنه ذهن المستعمر هو ما عرف أخيراً باسم الغزو الحضاري، ويعبر عنه بأسماء مختلفة، كالغزو الفكري، أو الثقافي، أو الاستعمار موصوفاً بما تقدم، أو التبعية الثقافية. ومن العبارات التي تطلق في هذا المجال الاستلاب أو السلب الحضاري،
وهو أن يتحرر الانسان من خصائصه الحضارية وما يمتاز به عن سواه، ويأخذ بخصائص غيره. ومن ذلك أيضاً القهر الحضاري، وهو أن يشعر الانسان بأن حضارته الأصلية وما تتجسد فيه من سلوكياته لا تسعفه في مجاراة ما جدّ في هذا الزمان من استفحال أمر المادة وسطوتها، وبسط الدنيا يدها، وتقصير منهج الحياة السائد في حل المشكلات المستجدة، فيشعر بالابلاس والافلاس، ويفقد ثقته في حضارته، ويتنكر لأصوله وتاريخه، ويرى الخلاص، كالغريق، في فتات الحضارة المادية الجامحة.
ان الخلاف بين الشرق والغرب قديم قدم التاريخ نفسه، واشتدت حدة الخلاف بعد ظهور الاسلام، فقد سكنت الجبهات الاسلامية في معظم الجهات منذ زمن بعيد، غير أن جبهة الروم قديماً، وورثتهم حديثاً، لم تسكن، ولم تنطفىء نار الحقد في صدورهم، ومن المعالم التاريخية البارزة في مسلسل الحقد ما عرف باسم الحروب الصليبية التي بدأت قبل حوالي ألف عام، ولم تزل قائمة إلىيومنا هذا، لكن بأشكال وطرق مختلفة، فقديماً صد القوم بمثل ما جاءوا به، فأعادوا النظر في أساليبهم وطوروا خططهم، وأعادوا الكّرة من جديد، فكان الاستعمار القديم ممثلاً في النشاطات البرتغالية والاسبانية والبلجيكية والهولندية، وبدأ الأوروبيون ينتشرون في بلاد المسلمين رحّالة وكشافة وقناصل وتجاراً، ثم كان من بعد الاستعمار الحديث الانجليزي والفرنسي والايطالي.
وقد واكب النشاطات التي شهدتها أوروبة في المجالات السابقة ظهور ما صار يعرف من بعد باسم الاستشراق، الذي بدأ أول الأمر على شكل دراسات لاهوتية، ما لبثت حتى وظفت في خدمة الدول الأوروبية والكنيسة، لدراسة المشرق ولغاته وحياته وديانته، لفهمها ومعرفة أنجع السبل في التعامل مع المسلمين وغيرهم، تمهيداً للانقضاض عليهم، وكيداً لدينهم، وايقاعاً للدسائس في صفوفهم، والتجسس عليهم، ليسهل ” تبشيرهم ” من بعد
ومن الباحثين من يعيد ذلك إلى ما قبل الحروب الصليبية، وذلك باعتبار الأوروبيين الذين كانوا يعملون في ترجمة التراث الإسلامي إلى اللغات الأوروبية، وأُلئك الذين كانوا يقصدون المعاهد في الأندلس وغيرها – مستشرقين، من أمثال جيرار دي اورلياك الذي عرف باسم سلفستر الثاني(938-1003 من ميلاد عبد الله المسيح عليه السلام ). غير أننا نرى أن الاستشراق المعادي بدأ في أعقاب الحروبالصليبية، وتحديداً بعد فشلها، مما حدا بالغرب إلى البحث عن خطة جديدة.
ومن يطالع سيرة المستشرق رايموندس لولوس يقف على اصرار وتخطيط مدروس للنيل من الاسلام والمسلمين ناهيك عما تنم عنه ممارساته في عقر دار الاســلام من حقــــد وتحدٍ استخفاف، حين أقام قداساً علينا في تونس سنة 1307م. وكان همه من صغره البحث عن وسيلة تمكّن الكاثوليكية من الانتصار على ” الشعوذة والكفر ” ويعني بهما الإسلام. ورأى أنه لا بد لاختراق العالم الإسلامي من نشر دعاة الكنيسة لكن بعد أن يتقنوا العربية، وشرع لهذه الغاية يتجّول في أوروبة لاقناع قادتها الدينيين والمدنيين، وفي مقدمتهم البابا نيقولا الثالث، بضرورة اقامة أكبر عدد ممكن من المراكز لتثثقيف ” المبشرين ” بالعلوم اللاهوتية، وتعليم اللغة العربية. وفي عام 1311م أقرّ المجمع المسكوني في فينا تعيين مدرسين كاثوليكيين اثنين في كل من جامعات باريس واكسفورد وبوبونيا وسالونيك لتدريس اللغات ومن بينها العربية.
ويتضح العداء السافر للاسلام والمسلمين في أعمال كثير من المستشرقين – ولا نقول كلهم – وقد تصدى بعضهم للرد على افتراءات الحاقدين ممن سمموا في الماضي مجتمعاتهم بما كانوا يروِّجونه من أباطيل عن الاسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين، فهذا هو الكونت هنري دي كاستري – وقد أسلم – يتحدث في كتابه ” الاسلام خواطر وسوانح ” عن آراء مواطنيه، لا سيما القدماء منهم، في صورة السخرية والتهكم، كقوله معّرضاً بهم” وذهبوا إلى أن محمداً الذي هو عدو الأصنام ومبيد الأوثان كان يدعو الناس الى عبادته في صورة وثن من ذهب كما كان يعتقد الكرلوقنجيون“
ويقول في موضع آخر” فلم يزل هذا الروح – البغضاء – سائداً عند المسيحيين حتى أن المستشرق” بريدو” الانجليزي ألف كتاباً سنة 1733م في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم عنوانه ” حياة ذي البدع محمد” وترجم بعضهم الكتاب الى لغتنا الفرنسية، وجعل له مقدمة بين فيها مقصد المؤلف، فقال: ان غرض واضع هذا الكتاب هو خدمة المقصد المسيحي الحكيم، ثم يعقب الكونت هنري على ذلك بقوله: اولئك كتاب ما قصدوا التاريخ، ولكنهم أرادوا خدمة المقصد المسيحي كما يقولون. وكان سلاحهم الوحيد في تأييد سواقط حججهم أن يوسعوا خصمهم سباً وشتماً، وأن يحرفوا في النقل ان استطاعوا.
وتتضــح هـذه المقاصــد فيما وصف به وايـس – أسـلم – الـمستشرقين الأولين حيث كانوا ” مبشرين” نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها من تعاليم الاسلام وتاريخه مدبرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوروبيين من ” الوثنيين” …. اما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية“.
” وكانت هذه الغزوات التبشيرية هي الطلائع التي مهدت للاستعمار الأوروبي ليفتح العالم الإسلامي فتحاً سياسياً، لهذا كان لا بد من تأسيس مراكز للاستشراق والتبشير والتوجه تلقاء المشرق، ونقلها اليه على وجه التدريج، فأسسوا في أواخر ق 16م مركزاً سياسياً كبيراً للتبشير في مالطة، وجعلوها قاعدة هجومهم التبشيري على العالم الإسلامي. وفي سنة 1834م انتشرت البعثات التبشيرية في سائر بلاد الشام، ففتحت كلية في قرية عين طورة في لبنان، ونقلت الإرسالية الأمريكية مطبعتها من مالطة إلى بيروت، وقد كان لهذه الكلية دور خطير في الدعاية الفرنسية، وهذا ما عبر عنه صراحة بيير كيلر، القائد العسكري الفرنسي في لبنان حين قال:” ان كلية عين طورة في لبنان هي وسط ممتاز للدعاية الفرنسية…. ان مؤسساتنا تعمل دون ملل لتغذية النفوذ الفرنسي…”
ولم يتوقف العداء للإسلام، ولكنه اتخذ أقنعة مختلفة، بل ان من خصومه من يجاهر بعداوته، فهذا هو يوسف الياس الحداد في كتابه” دروس قرآنية ” يغالط ويزوّر الحقائق، ويبتر ما ينقل ليوجه الكلام نحو النتائج التي يرمي اليها، ممثلة في التشكيك في النص القرآني ونسبته الى الأحبار والرهبان. وحينما يفحمه النص القرآني، ولا يستطيع تحريف معناه وألفاظه ومقامه يبادر إلى وصفه بأنه مدسوس أو مزيد أو مقحم.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا