هناك عــدد كبير من الأبحاثِ النظرية، الأجنبية منها والعربية على حدٍ سواء، كانت وما زالت تُسهب في وصفِ المجتمع العربي، معتبرة إيــاهُ في غالبيتها، أنه فسيفسائي متنوع، يتألفُ من جماعاتٍ متنافرةٍ ومتنافسة، وأنه متخلف يرفض الدخول في مرحلةِ العولمة. أو أنه ديني سلفي في توجهاتهِ ومنطلقاتهِ، أو أنه قبلي تُهيمن عليه الجماعات القرابية ( المحسوبية ) الأبوية الاستبدادية، فضلاً عن الصراع بين الحضر والبدو، أو بين الطبقات أو العائلات الحاكمة، أو بين الجماعات الطائفية والعرقية والمذهبية أو القومية...الخ.
وعليه يمكن وصف المجتمع العربي المعاصر، بأنه تاريخياً كان وما يزال يقوم على ما يأتي:
1ـإنه يعيش حالة إنتاجية تجارية ـ زراعية متمركزة حول العائلة يوافقها ظهور نظام ريعي في البلدانِ المنتجة للنفط .
2ـيعاني المجتمع العربي من حالةِ التخلف والتبعية؛ أثر اندماجه في النظامِ العالمي الرأسمالي. وقد تفاقمت التبعية في زمنِ العولمة.
3 ـشديد التنوع في بُنيتهِ، وانتماءاته الاجتماعية.
4 ـمجتمع أبوي يُعاني النزعة الاستبدادية على مختلفِ المجالات.
5 ـمجتمع مرحلي ـ انتقالي ـ تُراثي تتجاذبهُ الحداثة والسلفية.
6 ـيتسمُ المجتمع العربي بالشخصانيةِ في علاقاتهِ الاجتماعية.
7 ـأنه تعبيري في توجهاتهِ، وإن كانت له محرماتهِ ومكبوتاتهِ الصارمة.
أولاً: يمكن وصف المجتمع العربي المعاصر بأنه تجاري ـ زراعي. يتمركز في تنظيمهِ الاجتماعي والاقتصادي حول العائلة، والعلاقات الوشائجيه ما تزال شبه رعويه في العديدِ من المناطقِ البدوية والريفية. ويعيش المجتمع العربي في القرنِ الحادي والعشرين، في مرحلةِ ما قبل المرحلة الصناعية والتكنولوجية. وبالتالي في مرحلةِ ما قبل الحداثة وما بعدها، والتي تعيشها أوربا واليابان وأمريكــا.
أيضاً النظام الاقتصادي العربي، ما يزال مُتعدداً في أنماطِ إنتاجهِ، إذ تتعايش فيه مختلف وسائل الإنتاج ونظمها. فهو شبه إقطاعي، لاسيما إن العائلات الحاكمة تُهيمن على السلطةِ، ومصادر المال والثروة. وكذلك شبه رأسمالي، وشبه برجوازي يجمعُ بين ما بعد الإقطاعية وما بعد الرأسمالية، وبين الملكية الخاصة وملكية الدولة والعائلات الحاكمة، وبين وسائل الإنتاج التقليدية والحديثة.
فليس النظام العربي نظاماً إقطاعياً أو رأسمالياً أو اشتراكياً، بل أنه نظام مركب يجمعُ بين الملكية العامة والملكية الخاصة… وما تزال العائلات، لا الشركات الكبرى والمؤسسات، هي التي تُشكل مركز وعصب الإنتاج الاقتصادي.وإن معظم المجتمع العربي في المشرقِ والمغرب العربي، لا يزال بدائياً مركنتيلياً كما كان بعضه الآخــر، وما يزال الى حدٍ بعيدٍ زراعياً بالدرجةِ الأولى مثل ( المغرب ومصر، والسودان وسوريا، والعراق واليمن ).وتكونت في النصفِ الثاني من القرنِ العشرين المجتمعات الريعية المنتجة للنفط ، وأصبحت تعتمدُ عليه كُلياً ؛ الأمر الذي أنتجَ الفروقات والفجوات الكُبرى بين البلدان العربية الغنية والفقيرة ، وبين الأغنياء والفقراء داخل كل بلدٍ عربيٍ .
أما بالنسبةِ الى الصناعةِ، فقد كانت في مُختلفِ البلدان العربية تقتصرُ على الصناعاتِ الحرفية والمواد الاستهلاكيــة التحويليــة ( المواد الغذائية ، المشروبات والمنسوجات )، وأصبحت في بعضِ البلدان استخراجية ( النفط، والغاز والفوسفات… وغيرها ). وبدائيــة تُعاني التبعية للخارج، لاسيما في مجالاتِ تأمين المواد الغذائية والتكنولوجية المتطورة، وهنا يصبح من السهلِ في زمنِ العولمة مُحاصرة أي بلــد عربي لا يتفق والمصالح الغربية، وجعلهُ خاضِعاً أو تابعاً للجهات الغربية ـ الأجنبية ـ بعد أن كان يهدفُ الى الاعتماد على الــذاتِ والتنمية المستقلة الشاملة.
ولابُــدَ من الإشارةِ الى أن النشاط الإقتصادي كان وما يزال الى حــدٍ كبيرٍ يتمحور حول العائلة، ويتصفُ بالمحسوبيةِ والقرابة والمحلية والزبائنية، وإبتعاده عن العالميةِ. وفقاً لذلك كان للنظام الإقتصادي آثــار كبيرة لترسيخ الطائفيــة والولاءات الفئوية والحزبية، بما في ذلك العصبيات العرقية والقبلية والتي يعتقد البعض أنها ترجع للتنشئة الثقافية والدينامية التأريخية، متناسين جذورها الاقتصادية والاجتماعية السائدة حتى الوقت الحاضر..
ثانيــاً: يُعاني المجتمع العربي من حالــةِ التخلف والتبعية؛ أثــر اندماجه في النظامِ العالمي الرأسمالي، ورسوخ بُنيــة هرمية مُتــعددة التراتــب، وفقاً لذلك أخــذ المجتمع العربي يُناضل ويُكافح بوسائلــه الخاصة؛ للتحرر من هيمنةِ الاستعمار بأشكالــهِ العلنيــة والخفيــة، ومن هيمنــة العائلات الحاكمة والنُخب الاقتصادية لتنمية مواردهِ الإنسانيــة باستقلاليــةٍ عن القوى المتحكمة والمسيطرة على حياةِ المجتمعات وتقريــر مصيرها… ومن بين ظواهــر التخلف الرئيســة التي تُعانيها المجتمعات العربية ما يأتي:
أ- ظاهـــرة التبعيــة.
ب- ظاهـــرة البُنيــــة الطبقية والهرميـة ( الفقــر وتزايــد التفاوت الطبقــي ).
أ ـ ظاهــرة التبعيــة :إن اندماج الوطن العربي في النظامِ الرأسمالي الأوربي، خلال القرن التاسع عشر؛ قــد حولــه الى مجموعةٍ من بلــدانِ الأطــراف أو الهامــش المرتبــط ببلــدانِ المركز الصناعي أو التكنولوجي المتقــدم، ومرحلــة الثــورةالإعلاميــة والهيمنــة الكونيــة.
وقــد فـرض النظام العالمي ما يُعرف بنظامِ توزيــع العمــل الخــاص، بحيث تنتج بلــدان الأطــراف المـواد الخــام ( كالقُطــن والفحــم ) في السابــقِ، أو ( النفــط، والغــاز ) في الوقــتِ الحاضــر، فيما تنتج بلــدان المركــز ( التكنولوجيــا، والبضائــع الصناعيــة ) وغيرهــا.
وقــد أتصفت العلاقــات بين المركــز والأطــراف، بغيــابِ التوازن والتـساوي، وليس على أساسِ التعــاون الصحيــح ( الحـر ) بين مجتمعات يحترم بعضها الآخــر، وتأخذ المصالح المتبادلــة كمعيــار لمنهجـها في الحيــاةِ. وقــد تحكمت بهـذه العلاقــات الشركــات المتعــددة الجنسيات العابرة للقارات، والتي عمدت الى تحويــلِ الأرباح الى صالحِ المركز، وإجبار دول الأطراف على اتخاذِ قرارات اقتصاديـة وسياسيــة لا تخـدم مصالح شعوبهــا، بـل تخـدم مصالح المركز.
ب ـ ظاهــرة البُنية الطبقية والهرمية ( الفقر وتزايد التفاوت الطبقي ) : لابــد من الإشارة الى أنــه لا توجــد فجوات بين الطبقات الثرية والميسورة والمحرومة ( الفقيرة ) فحسب، بل أن هذه الفجوات تزدادُ إتساعاً وعمقاً، ففي الوقتِ الذي يمتلك العرب ثروات ضخمة ( بشرية ومادية )، إلا أنه تسود حالة من الفقرِ الساحق في الشعبِ العربي؛ بسبب البُنية الطبقية الهرمية، والتي تحتكر فيها القلــة السلطة، وتُهيمن على ثرواتِ البلاد، ذا يُعاني الشعب العربي حالة التبعية الداخلية شبيهة ومتممة للتبعية الخارجية، من خلالِ ممارسة مختلف الأنواع والطرق للاستغلال والهيمنة والفقـر والعُنف والفساد والإذلال اليومي، وعليه يُعاني الشعب تبعية مزدوجة، إذ يُهيمن الغرب على الكثيرِ من البلدانِ العربية بمساعدةِ الطبقات والعائلات الحاكمة، والتي تُهيمن بدعــمٍ وحماية بعض الدول الغربية ( التابعة لها ) على الطبقاتِ الفقيرة والكادحة في البلــدان العربية.
ثالثــاً : المجتمع العربي شديــد التنوع في بُنيتهِ وانتماءاته الاجتماعية : يتصف المجتمع العربي بالتعدديةِ في تركيبتهِ الاجتماعية، أو شديــد التنوع من حيثِ الانتماءات والعصبيات القبلية والطائفية والقوميــة والجهوية المحلية. وبحسبِ البيئة والاقليــم ونمط المعيشة ومستواها، والنظام العام والوضع الاقتصادي والموارد الطبيعية والأزياء، واللهجات والتجارب التاريخية وبُعدها وقربها من المجتمعاتِ والحضارات الأخــرى. وقــد تركزَ اهتمام المستشرقين على هذه التعددية الاجتماعية وبالغوا في اهتماماتِهم بها، من منظورِ مصالحهم وحضاراتِهم ومجتمعاتِهم؛ لذلك صوروا المجتمعات العربية وبقيــة شعوب الشرق الأوسط، على أنها مجتمعات فسيفسائية ( متنوعة ) في تركيبتها وهويتِها. ومن أجلِ البحث في طبيعةِ التنوع أو التعددية الاجتماعية في المجتمع العربي، نرى تحليلهُ باعتمادِ نموذج منهجي ذي بُعدين أساسيين. على أن نؤجل البحث في الانقساماتِ الطبيعية التي لا يمكن فصلها عن بقيةِ الانقساماتِ الاجتماعية الأخرى…
وهُنا يمكن تصنيف المجتمع العربي وفقاً لتنوعاته وتركيباتهِ الاجتماعية وبالشكلِ الآتي :
1 ـتُصنف المجتمعات العربية من حيثِ شــدة تنوع انتماءاتها القبلية، والدينية والطائفية والعرقية وغيرها من الجماعاتِ، ومدى الانسجام القائـم بينها، وبحسبِ موقعها التاريخي في امتدادٍ صيروريٍ متدرجٍ يقعُ في أقصى أحــد قطبيـه، ما يمكن تسميتهُ المجتمع الشديــد التجانس، ويستوجب أن يكون التضامن والولاء للمجتمع أو الأمـة. كما ويقع في أقصى قطبهِ الآخــر المقابل، ما يمكن تسميته، المجتمع الفسيفسائي الشديــد التفسُخ، ويغلب فيه الولاء للجماعات، ويتوسط هذيــن القطبين ما يُسمى بالمجتمعِ التعددي، الذي يُوازن بين الولاء للجماعات والولاء للمجتمع، أما البعض الآخــر من المجتمعاتِ يكون أقرب الى حدٍ ما من المجتمعاتِ النموذجية الثلاثـة منها الى غيرِهــا.
2 ـممكن أن نُحلل طبيعة العلاقات القائمة بين الجماعات التي يتألفُ منها المجتمع من حيث درجة ميلها الى النزاع، والمتمثل بتغليبِ مصلحة الجماعة على مصلحةِ المجتمع، وبالنتيجة تسود حالات التوترات والاختلافات والتجاذبات السياسية، ومن ثم الحروب الأهليــة في ظلِ ظروفٍ يشوبها الفساد والإرهاب وأجواء متشابكة ومعقدة داخلياً. أو ميلها الى التعايش المتمثل بالتمسكِ بالهويةِ الخاصة، والتعاون نوعاً ما في إطارِ المجتمع. وأخير الميل نحو الانسجام والانصهار المتمثل بتغليبِ الهوية المجتمعية أو القومية على الهوياتِ الفرعية الفئوية، والتقليل من أهميةِ الفروق والتمايزات فيما بينها، ومكافحة التمييز بين شرائح المجتمعات كافة.
لذلك عندما يتم النظر الى طبيعةِ العلاقة بين البُعدين الأول والثاني والتداخل بينهما، أي بين درجتي التنوع والانصهار، يمكننا أن نستنتج أن عملية الانسجام والانصهار تسود في المجتمع المتجانس، فيما تسود حالة التعايش في المجتمعِ التعددي، وتسود عملية التراوح بين النزاع في الأزماتِ والتعايش في المجتمعِ الفسيفسائي. بعبارةٍ أخرى، نجـدُ أن العلاقات بين البُعدين المذكورين، بأن المجتمع المتجانس يكون التجانس نسبي وليس مطلق. أما بالنسبةِ للعلاقات بين الجماعات وليس من حيثِ التكوين الطبقي هو المجتمع الذي تنصهرُ فيه اجتماعياً وثقافياً فتتوحـد الهوية الخاصة والعامة في هويةٍ موحدةٍ مشتركةٍ وجامعة. أيضاً تسود في مثلِ هــذا المجتمع عمليــة الانصهار وينشأُ فيه نظام مركزي مُهيمن، ونظام تربوي موحــد، بحيثِ من السهولـةِ الوصول فيه الى نوعٍ من الإجماع حول القضايا المهمة الأساسية المرتبطة بمصيرِ الأمــة، وعلاقتها بالعالمِ الخارجي.
رابعاً : يتصف المجتمع العربي تقليدياً بالأبويةِ أو البطركية والنزوع الى الاستبدادِ على مختلفِ المستويات.
يُعاني الإنسان في المجتمعاتِ العربية من سلطويةِ واستبدادية الأنظمة السياسية السائدة وأزمة في المجتمع المدني، ويُرجع البعض الكثير من الفوضى والأمراض الاجتماعية والانهزامات العربية الى التركيبةِ الاجتماعية الخاطئة ( البطركية ) وهيمنة السلطة الأبوية وليست العائلة فحسب، بل في مختلفِ مجالاتِ التربية والتعليــم والعمل والدولة.
وتتضح نزعة الهيمنة والاستبداد على مستوى العائلة في أساليبِ التنشئةِ الاجتماعية، حيث تكون الشخصية البطركية من أبرزِ ركائزها في النظرةِ الدونية للمرأة، وقد أصبح تحريرها شرطاً لتحرير المجتمع من تخلفهِ واستبدادهِ،وكذلك من سماتِ المجتمع الأبوي هو في سيطرةِ الأب على العائلةِ ، إذ يُعــد الأب المحور الذي تنتظم حوله الأسرة ( العائلة ) بشكلِها الطبيعي والوطني ؛ لذا تكون العلاقة بين الأب وأبنائهِ وكذلك بين الحاكم والمحكوم هي علاقة هرمية،
فإرادة الأب في كلِ من الإطارين هي الإرادة المطلقة. ويتم التعبير عنها في العائلةِ والمجتمع بنوعٍ من الاجتماعِ القسري الصامت المبني على الطاعةِ والقمعِ. بحسبِ هذا المنظور يكون المجتمع العربي بمجموعهِ مجتمعاً بطركيا، ذا نمط خاص من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، سابق للرأسمالية، ونمط معين من التفكيرِ والعملِ سابق للحداثــة.
أما ظاهرة الدولة التسلطية، يرى البعض أنها تنطبقُ على المنطقةِ العربية بأكملِها، وربما على نطاقٍ واسعٍ للعالم الجنوبي جميعه، وتُعرف الدولة التسلطية بأنها ( الشكل الحديث والمعاصر للدولة المستبدة، كالإقطاعية، والسلطانية، والبيروقراطية، وتسعى الى احتكارِ مصادر القوة والسلطة في البلدِ، وتحويل مؤسساتهِ الى تنظيماتٍ تضامنيةٍ تعمل كامتداد لأجهزة الدولة ).
ومن خصائصِ الدولة التسلطية، هيمنتها على القطاعِ الاقتصادي وإلحاقه بها، أما عن طريقِ التأمين، أو توسيع القطاع العام والهيمنة البيروقراطية الكاملة على الحياةِ الاقتصادية، ثم تعتمد في شرعيتِها على أساليبِ العنف والفساد والإرهاب، أي استخدام القوة السافرة تحت غطاء القانون والدولة.لذلك نجد أن الأنظمة والمؤسسات والبنى والاتجاهات القيمية السائدة في البلادِ، لا تشجع ولا تفسح المجال لاشتراك كافة النخب وشرائح المجتمع في مختلفِ النشاطات الإنسانية من اجلِ المساهمة في تنميةِ واستقرار البلاد. وبالتالي في صنعِ القرار وتحقيق المصير، بل على العكسِ من ذلك سوف يحصل، بل إنها تعتدي على حقوقِهِ الإنسانية المتعددة، وتساهــم في تعطيل دوره، في تحسين أوضاع الإنسان العربي، وتجاوز حالة التخلف والتبعية، فيصبح الإنسان العربي كائن عاجز مغلوب على أمرهِ، مرهق بمهماتِ تحقيق وتأمين حاجاته اليومية، ومنشغل عن قضاياه الكبرى.
أما مسألة الإنقياد للسلطة فأنها تنقسم الى شقين: الأول الامتثــال الطوعي، والثاني الامتثــال القسري. حيث يقوم الامتثال الطوعي عند الاضطرار، والامتثــال الاستبطاني، الذي يقوم على قناعاتٍ داخلية نتمسك بها، بغضِ النظر عن حضورِ السلطة أو غيابها، وفقاً لهذا إن السلطة القمعية السياسية منها والاجتماعية والتي تؤدي الى حدوثِ امتثال قسري، لا امتثـــال استبطــاني، ويؤدي ذلك بدورهِ الى حصولِ حلقة مفرغة من السلطاتِ السافرة ينجم عنها امتثال قسري يشكل مبرراً لمزيد من التسلطِ والاستبداد.
خامساً : يمكن أن نصف المجتمع العربي بأنه مرحلي ـ انتقالي ـ تراثي تتجاذبه الحداثة والسلفية. إن المجتمع العربي ما يزال يمرُ في مرحلةٍ انتقاليةٍ منذُ مطلع القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر في أواخر القرن العشرين، فهو تراثي في ثقافتهِ التي ترجع الى ما قبل ظهور الإسلام، الذي تسبب بتوسعها وانتشارها وتفاعلها مع ثقافاتِ العالم الآخر، المعروفة أيضاً بقدمها ورسوخها في بلدانِ الوطن العربي في تأريخهِ المعاصر، ولأنه مجتمع تراثي يمر في مرحلةٍ انتقاليةٍ؛ كان وما يزال موزعاً بين أفكار ومفاهيم وتقاليد عالمهِ القديم وعالمهِ الحديث ( المعاصر ) وما بين كيف سيكون في المستقبلِ؛ لذا فهو يعيش في حالةِ عدم استقرار وتأزم مستمر. فيعيش صراعاً ( مريراً ) تتجاذبه قوى الوعي التقليدي، وقوى الوعي الحداثي ( المنفتح ) وقوى اليمين وقوى اليسار، والقوى التقدمية، والقوى الرجعي، والقوى العلمانية، والقوى الثيوقراطية الغيبية ( الدينية )، وقوى الماضي والحاضر والمستقبل وغيرها.
سادساً :يتسم المجتمع العربي بالشخصانيةِ في العلاقاتِ الاجتماعيةِ، على هذا الأساسِ يتمُ تغليب مفهوم الجماعة على الفردِ كما على المجتمعِ، ومن المعلوم أن الولاء للجماعة غالباً ما يتعارض مع الولاءِ للمجتمع والأمة. وأن كثيراً ما يتم الحساب على أساسِ الجماعة في تشكيلِ الوحدة المتداولة في العلاقاتِ والالتزاماتِ الإجتماعية، كما أنها تُشكل ( الجماعة لا الفرد ) الى حدٍ كبيرٍ النقطة المركزية في تنظيمِ النشاطات الإنسانية والاقتصادية. باعتبار الجماعة الأهم في نسيجِ العلاقات والنشاطات المختلفة، وأيضاً العلاقات الاجتماعية في المجتمع العربي لا تزال في غالبِيتها علاقات أولية ” Primary Group Relations ” أي علاقات شخصانية، تعاونية حميمية، ووثيقة نوعاً ما، مشحونة بالعواطفِ، ويستمدُ منها الفرد اكتفاءاً وطمأنينة نفسية. ولأن الجماعة علاقاتها وطيــدة، لذا تكون الصداقة والمحبة في حالةِ التزام كبير، ويكون العداء والعتب عند التخلي عن تلك الالتزامات التي تنبثقُ من روحِ الجماعة. وتتعارض العلاقات الأولية مع العلاقاتِ الثانوية ” Secondary Group Relations ” السائدة في المجتمعاتِ الصناعية وما بعــد الصناعة والحداثة معاً، فيما يُسمى العصر التكنولوجي ـ لاسيما ذات الأنظمة الرأسمالية ـ . وهي علاقات لا شخصانية رسمية، تعاقدية، تقتصرُ على جوانبٍ ومهمات محدودة، تنافسية في كثيرٍ من الأحيانِ، دون الإلتزامبالآخر، فيستمدُ الفرد اكتفائهِ الذاتي ليس من العلاقاتِ الشخصية الحميمية، بل من إنجازاتِ عملهِ، وإظهار نفوذهِ الواضح ومن مقتنياتهِ بالدرجةِ الأولى.
سابعاً : المجتمع العربي تعبيري في توجهاتهِ، وعفوي في ثقافتهِ.
إن المجتمع العربي تعبيري وعفوي في توجهاتهِ الثقافية، وأن تكُن له مكبوتاتهِ ومحرماتهِ، التي يتخوف الناس من التحدثِ حولها علناً، لاسيما في مجالاتِ الدين والسياسة والجنس. ما نقصدهُ بالنزوعِ التعبيري في الثقافاتِ العربية: هو أن الأفراد والجماعات يعبرون عن أنفسهم تعبيراً عفوياً قد يكون بأسلوبٍ مهذبٍ أو سلبيٍ ( شراسة ) وفقاً للظروف ولاسيما ما يرتبط بمشاعرِ المحبةِ والحُزنِ والرضا والتفاؤل أو التشاؤم والانسجام والنفور. مما يوحي بنزوعٍ نحو العاطفة أكثر منه نحو العقلانية في التعاملِ مع الأحداثِ.
وقد يأتي هذا التعبير في بعضِ الحالات من دونِ تدقيق منهجي يربط بين المسببات والنتائج بحسبِ خطةٍ مدروسةٍ، ومن دونِ الكثير من الكبتِ والرقابةِ. وقد ينتجُ عن ذلك القيام بالكشفِ عن مكنوناتٍ يكون من الأفضلِ عدم التصريح بها، أو أن نكبتُ ما قد يكون من الأفضلِ الإفصاح عنهُ، وإذا ما حللنا هذه الظاهرة من منظورِ العلاقاتِ الأولية وعلى صعيدٍ أعمقٍ قد يكون من بين الأسباب لهذه النزعة التعبيرية من منظورِ العلاقات الأولية، أو الرغبة بتعزيزِ مثل هذه العلاقات الشخصانية.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا