يعد التعليم من أهم الوسائل التي تعتمد عليها الدول في صنع تقدمها ، وتحقيق غاياتها وطموحاتها، وحل ما يعترضها من إشكاليات سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو أمنية ، وترسيخ مكانتها ،والمحافظة عليها والدفع بها إلى الأمام ،خاصة في هذا العصر الذي تميز بتنافس محموم بين مختلف الدول المتقدمة والساعية بإرادة وجدية لتحقيق تقدمها،
وأخذ مكانتها بجدارة في هذا العصر العلمي المتميز بسرعة التراكمات العلمية في مختلف المجالات ،من خلال نظم تعليمية نالت الاهتمام اللازم، فأعطت ثمارا أكثر من المتوقع ،ومع ذلك تعمل مختلف البلدان المتقدمة والساعية بجدية نحو اللحاق بركب التقدم على مراجعة نظمها التعليمية، وبصورة مستمرة ودورية وتعمل على تحسينها وتطويرها ،
حتى وصلت إلى تبني مفاهيم الجودة ،وإدارة الجودة والجودة الشاملة نظرية وتطبيقا ،واعتمدت مقاييسا لمواصفات مخرجاتها التعليمية لتضمن فاعليتها في اكتساب المعارف والمهارات بل والكفايات التي تمكنها من تحقيق ذواتها والمساهمة الفاعلة في تقدم بلدانها ،وبمتوالية لا تتوقف بل تزداد تسارعا وتحقيق تنميها الفاعلة والمستدامة ،وضمان استقرارها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني ،لذا صار التعليم السلاح الأقوى في هذا العصر لأنه يستهدف الإنسان، كي يجعله متعلما مبدعا قادرا على التأقلم مع التغيرات المتسارعة في كافة مناحي الحياة ،وبالنظر إلى واقع التعليم في بلدان المغرب العربي الكبير يُلاحظ بأن شأنه شأن الواقع التعليمي في أغلب البلدان العربية
إن لم يكن في كلها ،واجه العديد من محاولات الإصلاح وواجه ولا يزال الكثير من العراقيل والتحديات واعترته العديد من المشاكل والسلبيات التي تكاملت في ما بينها، وتداخلت مع بعضها البعض لتشكل أنظمة تعليمية اقل ما يقال عنها أنها متخلفة وفق مقاييس العصر الحالي ،وغلبت عليها الأنماط التقليدية التي تجاوزها الزمن، فلم تكن مخرجاتها على درجة عالية من الخبرة والكفاءة ،وتميزت بتدني مستوياتها المعرفية والمهارية ،وعدم قدرتها على الاستجابة لمستجدات العصر ومتطلباته وتغيراته المتسارعة، ولم تستطع مواكبة التطورات العالمية ،ولم تتمكن من مواكبة المعرفة الرقمية ، وانعكس ذلك على كل البرامج والمخططات التنموية ،وتهاوت الكثير من الأحلام والغايات ،وصار التعليم عبئا يثقل كاهل الدولة ،ولا يساهم في زيادة الإنتاج والدخل ،بل أدى إلى إنتاج العاطلين عن العمل وزاد من حدة البطالة ،وأثر سلبا على التماسك الاجتماعي وساهم في إيجاد التطرف والعنف ،
وسوف يزيد من تفاقم الأزمات في بلداننا المغاربية، إن لم يتم تدارك الأمر وبسرعة من خلال اتخاذ إجراءات عاجلة ومدروسة للتحول من سياسات التعليم ،إلى سياسات التعلم التي تركز على استثمار رأس المال البشري وتوفر له فرص التعلم الذاتي، الذي يكسبه المهارات التي تمكنه من تحقيق طموحاته، والقيام بدوره في المجتمع والمساهمة في بنائه، ووضع خارطة طريق واضحة تنبثق من تخطيط تنموي شامل ،يستهدف تطوير المجتمع من خلال الإنسان ولأجل الإنسان ، والتحول به من مستهلك للمعرفة إلي منتج لها،
ولكي تصل هذه النظم التعليمة إلى ذلك فلا مناص أمامها إلا تبني مفاهيم الجودة التعليمية نظرية وثقافة وتطبيقا ، حتى تتمكن من تأسيس نظم تعليمية تتجاوز السلبيات التي راكمتها النظم التقليدية ، وتؤسس لوضع جديد يمكنها من استيعاب التطورات العلمية المتسارعة ،وحيث أن تعليمنا المغاربي لا يحتاج إلى إصلاحات بقدر ما يحتاج إلى تغيير بنيوي شامل في كل مكوناته ،بدءا من فلسفته وأهدافه مرورا بمناهجه وإداراته وطرائقه ووسائله وصولا إلى مخرجاته ،
من خلال ربطه المباشر بتطلعات المجتمع وغاياته ،وبرامجه وخططه التنموية الشاملة، عندها يصبح التعليم أداة استثمار، وتكون مخرجاته قادرة على تمثل المعرفة وتوظيف تطبيقاتها في تحقيق تنمية مستدامة ،ورغم محاولات بلدان المغرب العربي في إدخال مفهوم الجودة في التعليم ،سواء العالي أو العام إلاّ أن هذه المحاولات كانت متفاوتة ، ولا ترتبط بتوجهات مجتمعية تنبثق من تخطيط تنموي شامل يتمثل نوعية البرامج التنموية التي يتطلبها واقع وإمكانات البلاد
وبالتالي نوعية المخرجات التعليمية التي تحتاجها تلك البرامج ،بل تم النظر إليها من خلال رجال التعليم الذين حاولوا النظر إلى معايير الجودة التي تبنتها دول أخرى، ولم تتوفر لهم سياسات الدولة ولا تحديد ما تريده من التعليم ليكون عامل استثمار في رأس المال البشري، ووسيلة لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة، لذا كان موضوع هذا البحث ،لمحاولة إبراز الدور الذي يمكن أن تلعبه جودة التعليم في تحقيق التنمية المستدامة في بلدان المغرب العربي الكبير.
إن دراسة جودة التعليم بشكل علمي ودقيق ,واستعمال وسائل وأساليب حديثة تمكن العاملين في التعليم من تفهم أوضاع جديدة تتلاءم مع ظروف ومتطلبات عملهم. وتمكنهم من تحقيق أهدافهم بشكل متوازن ومتكامل على جميع المستويات في اطار منظور من العدالة بين الأجيال الحالية والمستقبلية , و تحليل الواقع الحالي وصياغة السياسات وخطط العمل وتنفيذها ومتابعتها بصورة منتظمة , و التركيز على إدارة التقدم باتجاه جودة التعليم ليكون الطريق الأمثل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتكمن مشكلة البحث بأن التعليم يواجه معوقات أساسية تحد من قدرته على تحقيق أهداف التنمية المستدامة ، والتي تتمثل في انخفاض مستوى مشاركة المؤسسات التعليمية في قطاعات التنمية ، نتيجة ضعف إمكانياتها ، سواء من حيث حجم القوى البشرية المتاحة ، أو من حيث نقص المها ارت والكفاءات المتوافرة لديها .
إن التطورات العلمية الحديثة التي بدأت تؤثر بشكل مباشر في التعليم ,دفعت جميع دول العالم للعمل على تطوير العملية التعليمية
بما يتلاءم مع هذه التطورات ,اذا بدأ ت بتغيير مبادئ وأسس التعليم من خلال الكشف عن اتجاهات حديثة تتصل بطبيعة الفرد ونموه, إضافة إلى إيلائها مسؤولية مساعدة المعلمين والمتعلمين على متابعة التعلم والتعليم والاهتمام بتشجيعهم على الأقبال في عملهم وعلى أمور حياتهم بأساليب اكثر إبداعا وتوجيه الجهود إلى أهمية تتبع البيئة والأبداع والقيادة وبناء الثقة واتخاذ القرارات لجعل العاملين في التعليم فاعلين ويصبح دورهم هو تطوير الأجواء وتحقيق أهداف التنمية المستدامة وفق المعايير التعليمية السليمة. يعد قطاع التعليم مجال للاستثمار راس المال البشري، و أداة لتلقين المعارف و المعلومات للمجتمع بكل فئاته بدون استثناء، كما تسهل المؤسسات التعليمية عملية الإدماج الاجتماعي ,اذ إن قطاع التعليم يساهم في تكوين المواطن القادر على الحوار و الإقناع والاقتناع، و يفترض في هذا المواطن الوعي باللحظة التاريخية التي يجد فيها نفسه مرغما على فهم عقلاني للمنظومة العالمية و موقعه داخل هذه المنظومة ، كما أن هذا القطاع هو مرآة تعبر عن السياسة العامة للبالد و تحدد للنظام مساره، و آماله و صيرورته. انتشرت و ذاعت الفكرة القاضية بأن لكل إنسان الحق في أن يتعلم ، ً من حقوق الأنسان فحسب ، بل أنها كذلك عامل الغنى عنه من أجلً أساسيا غير إنه أصبح من المسلم به الآن أن التعليم ليس حقا تحقيق أهداف التنمية المستدامة والاستثمار السليم في مجالاتها , لهذا ألا يخفى على أي منا أهمية التنمية المستدامة في قطاع التعليم المؤسسة البنائية الأولى لبنية الأنسان ومستقبل الأجيال , وما لتأثير نشر فكر التعايش السلمي عن طريق التنمية المستدامة التي تعمل على تحقيق حياة افضل للفرد عما هو عليه من خلال العمل للارتقاء بالجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي وخاصة الجانب الصحي والبيئي لما له من تأثير كبير جدا على حياة وصحة الفرد والمجتمع. إن القضايا البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجه دول العالم بأسره من أقوى التحديات التي واجهت الأنسان على مر العصور، والتي نتجت عن التفاعل غير الرشيد من جهة الإنسان نحو البيئة المحيطة به والموارد المتاحة بها، الأمر الذي يتطلب إعادة تشكيل العالقة بين الإنسان وبيئته وزيادة وعيه بطبيعة هذه العالقة، وقد ارتبط ذلك بمفهوم التنمية المستدامة, لذا بات العالم يدرك أن الكوادر التعليمية هي أساس التنمية المستدامة، وإن النظر إلى التعليم النوعي
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا