إن الخبرات التي يمتلكها الفرد وما تتضمنه من معارف وممارسات وآراء وتوجهات تجاه الشئون السياسية للدولة المتمثلة في النسق القيمي الذي يشمل الولاء والانتماء والإخلاص والتضحية والشرف، وما تتضمنه من مفاهيم منها المشاركة والشرعية والسياسة والحكم والدولة، كل هذا يشير إلى الثقافة السياسية.
وفي خضم تلكما الثقافة يبادر الفرد بمشاركته السياسية وفق ما يتاح له وما قد يرغب أن يصل إليه، كونه مهتمًا بالشأن السياسي بشكل إيجابي، لما لديه من معرفة تتسم بالشمول حيال الشأن السياسي على المستويين المحلي والدولي، وتلك المعرفة تُسهم بالطبع في تشكيل رؤيته ووعيه السياسي، بما يساعده على تحليل مجريات الأحداث ومن ثم يحمل فهمًا عميقًا لشتى القضايا السياسية.
وندرك أن من يمتلك الثقافة السياسية يستطيع أن يبادر بنقد بناء يستهدف به التحسين والتطوير وإصلاح المعوج؛ حبًا في الإعمار والنهضة التي تتأتى من مواطنة صالحة؛ حيث أضحت المعرفة الصحيحة محفزة لإيجاد حلول مبتكرة من وجهة نظره، ويرغب في تبادلها مساهمًا في طرح ما يتناسب مع القضايا السياسية محل الاهتمام المجتمعي.
ونرى أن ماهية الثقافة السياسية يتمخض عنها مبادئ ينبغي التمسك بها كونها لا تتعارض مع ما تحض عليه القيم النبيلة التي يؤمن بها المجتمع ويتبناها، وهذا ما يدفع بأفراده أن يسلكوا مسارات النهضة والتقدم والرقي، ويحثهم على تحقيق غايات الوطن العليا ودحر ماهية المصالح الشخصية الضيقة التي تضير بالصالح العالم وتفسد كل ما حسن وطيب في مكونه ومكنونه.
ونوقن أن من يمتلك الثقافة السياسية يتوافر لديه الرغبة الجامحة تجاه التواصل الفعال؛ حيث يستهدف إيصال ما لديه من رسائل إيجابية تسهم في تحسين مقومات المناخ السياسي؛ لذا نجده ينخرط في كافة المناقشات والحوارات التي تهتم بالجانب السياسي؛ ليحاول أن يعبر عما يجول في خاطره ويستطيع أن يقدم الرؤى والأفكار التي تثري الساحة السياسية.
ونجد أن لغة الحوار الجامع من المفضلات لدى الأفراد الذين لديهم ثقافة سياسية؛ حيث لديهم الرغبة التامة في المشاركات الجماعية، ويستطيعون أن يتعاونوا بشكل فاعل، بل ويشاركوا في التنظيم لإنجاح الفعاليات السياسية؛ فمن خصائصهم المميزة تحليهم بالصبر والمبادأة بما يمكنهم من تحقيق الغاية المنشودة.
ويحوز من لديه ثقافة سياسية قيمًا نبيلة يأتي في طليعتها التقدير والتسامح واحترام الآخر، وعبر ذلك نجده لا يحاول أن ينتهك الخصوصية، ولا يسعى لتشويه الآخر، ولا يحجر على رأي مخالف، ويحرص على أن يبدي احترامًا وتقديرًا لوجهات النظر المتباينة، ومن ثم لديه المقدرة على أن يستوعب المعارض ولا يتنمر به، ويستمع جيدًا لمن يحاوره.
والمشهود لمن يمتلك الثقافة السياسية أن لديه ثباتًا انفعاليًا؛ حيث يتناول الطرح بسلاسة وبساطة يستقبلها الآخرون، بل ويثنون على أسلوبه، وهذا يؤكد أثر الثقافة السياسية في إخراج الفرد من حالة الانعزال والتقوقع إلى حالة الاندماج التي تجعله قادرًا على ممارسة أدوار قيادية في ضوء ما يوكل إليه من مهام، وذلك عندما يمتلك الوعي السياسي الصحيح؛ إذ يدرك أن تحقيق أهداف المجتمع السياسي في احتياج لتضافر وتشارك، وأن العمل السياسي بات أمرًا يساعد في نهضة الوطن، ويلبي احتياجاته ويحقق أمنياته وآماله.
ويحرص من يمتلك الثقافة السياسية على المشاركة من خلال القنوات الشرعية في العملية السياسية؛ ليصبح مؤثرًا ومعبرًا وحاضرًا في تلك العملية، ومن ثم يعي أدوار الأحزاب السياسية والتي تعد أحد المنابر التي قد تساعده ليصبح منتخبًا، أو منخرطًا في الحملات الانتخابية، أو قادرًا على إيصال رأيه للمسئولين بالدولة، وداعمًا لرأي الجماهير عند حضوره للمنتديات والملتقيات والمؤتمرات ذات الطابع السياسي.
وبما لا يدع مجالًا للشك فإن الثقافة السياسية تتطلب مزيدًا من المطالعة والمعرفة المستدامة، كما تحتم ضرورة متابعة مجريات الأحداث وتحليلاتها السياسية من قبل الخبراء والمتخصصين؛ كي يعمل المثقف سياسيًا على صقل خبراته، ويتمكن من استيعاب التغيرات التي قد تطرأ على الساحة المحلية والعالمية، ومن ثم يستطيع أن يتفاعل مع نظرائه على المستوى المحلي والدولي؛ إذ يمتلك من الأدوات ما يساعده في تقييم الأمور وإصدار الأحكام، بل والتنبؤ بالمستقبل.
وتتسق الثقافة السياسية مع تقبل الفرد للتعايش والتعاون مع ذوي الثقافات المختلفة بما لا يخل بهويته وقوميته؛ فيستطيع أن يعقد الحوارات، ويخرج برؤى مشتركة تؤكد على جسور التعاون على المستوى الدولي، وتدحض فكرة الانعزالية، ويتطلب ذلك امتلاك المثقف سياسيًا مهارات التخطيط والتنفيذ ليحقق نمط التواصل الفعال الذي يحتاج لمهارات التفاوض والإقناع وتقديم الحجج وحسن التصرف في ضوء متغيرات المواقف وثنايا القضايا السياسية المطروحة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر