أثبتت التجربة الوجودية أن هناك ثمة صراع بين الإنسان وقوى الطبيعة، وبناء على ذلك سعى الإنسان تجاه تحقيق ماهية الأمن والأمان لحياته من خلال تطوير البيئة الطبيعية والسيطرة عليها وجعلها أكثر انسجامًا مع إنسانية وعمل على تسخير كافة مواردها لخدمته، ومن ثم نجد أن هناك ضرورة ماسة تجاه تكوين الكوادر اللازمة للإنتاج المستدام بكافة المجالات، مما يتطلب تنمية قدراتهم على التصرف بذكاء وتزويدهم بالتأهيل اللازم لنشاطات اجتماعية محددة.
وفي ظل ثورات صناعية متلاحقة كان هناك اهتمام واضح لماهية رأس المال الفكري خاصة لدى المؤسسات الاقتصادية؛ حيث ثبت أن للمعرفة وما تشهده من تنامي مستدام دور في تكوين الثروات ومكانة خاصة للاستثمار بها ورعاية القدرات والإبداعات التي أصبحت متطلبات أساسية لا يستهان بها في توجيه الطاقات، ومن ثم تغيرت مفاهيم يصعب حصرها في ضوء تغير فلسفة بناء الإنسان والتوجه نحو بناء قاعدة معرفية قوية لديه، تمكنه من اكتساب المهارات والمعارف التي تتيح له المشاركة الفعالة في المجتمع، والانتقال به من مرحلة التلقين لمرحلة إنتاجية المعرفة وتوليد الأفكار في العديد من المجالات التي أثرت بقوة في اقتصاديات العالم.
وتتطلب التنمية بكافة صورها لأي مجتمع، إحداث تحول نوعي في العملية التعليمية لإنتاج رأس مال فكري متطور يساهم في تنمية رأس المال الاجتماعي ومواجهة العولمة والتدهور الثقافي، وينظر إلى التعليم على أنه وله فوائد عديدة حيث إنه يزيد الإنتاجية ويزيد الاستثمارات والمدخرات؛ فهو يساعد على التقدم وزيادة الدخل وتكافؤ الفرص، ويضمن العمل، وتعزيز دور المرأة في الأنشطة الاقتصادية وزيادة الإنتاجية الاقتصادية الشخصية والعالمية
والنظرة للمؤسسة التعليمية تباينت في ضوء تغير الهدف الاستراتيجي منها؛ حيث إن المجتمعات تحولت من الاعتمادية والاستهلاكية إلى سباق التنافسية عبر إنتاجية لها مواصفات تحقق لها الريادة، وهنا صارت العملية التعليمية معينة بتنمية رأس المال الفكري الذي يطور بالتبعية رأس المال الاجتماعي، ويحقق الغايات التي يرسمها المجتمع وفق ما يتبنى من نسق قيمي وعقدي يؤمن به، ويجعل الفرد يواجه متغيرات العولمة ويوقف حالة التدهور الثقافي المتسارعة.
وقد ايقنت الدول أن التعليم قاطرة النهضة ومن بوابته يمكن الحصول على العديد من الثمرات وفي مقدمتها التمكن من بناء إنسان لديه الخبرة لأن يساعد ويحدث تنمية إنتاجية ويزيد من الاستثمارات والمدخرات التي تخص الدولة ومؤسساتها المختلفة، ومن ثم يساعد على التقدم وزيادة الدخل في ضوء ما توفره الدولة من تكافؤ الفرص، وإتاحة العمل الذي يتناسب مع طبيعة الخبرة التي يمتلكها الفرد.
ويعد التراكم المعرفي أحد اساسيات التطور المستمر للحياة الاجتماعية؛ حيث يستفيد الأفراد من خلاله بتجارب الأجيال السابقة، ويعملون على تحسينها وتطوير الإنتاج المادي عن طريق نشر المعارف المتعلقة بالحياة الطبيعية والاجتماعية، مما يسهم في تحسين فنون الإنتاج المادي وتميكن الأفراد من فهم وتطبيق المعرفة في المجالات المختلفة، وهذا ما جعل العديد من الدولة تهتم بتدشين بنوك المعرفة التي تسهم في صقل الخبرات المتنوعة.
وفي ضوء التبدل القيمي أو انهيار بعض القيم الذي تعاني منه المجتمعات قاطبة بات التعليم الملاذ الآمن الذي يعمل على تعزيز القيم المجتمعية والأخلاقية ويسهم في تطوير مهارات التفكير النقدي ويحقق ماهية التفاعل والاندماج الاجتماعي، مما يسهم في بناء مجتمع مترابط ومتماسك، وهنا نستطيع القول بأن التعليم ليس مجرد نقل لمعارف غير وظيفية وإنما يمكن الأفراد من اكتساب المهارات والمعارف التي تتيح لهم المشاركة الفعالة في المجتمع.
وعندما يمتلك الفرد الوعي الصحيح من خلال خبرات متعلمة مقصودة نجد أن ذلك ينعكس على الصحة العقلية والبدنية والتي تمثلهما مقومات الصحة العامة من خلال تنمية الوعي الصحي بين أفراد المجتمع، وهذا بالطبع يساعد في تقليل انتشار الأمراض ويؤدي إلى تعزيز نمط الحياة الصحية، ومن ثم تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث يساهم في إعداد القوى العاملة المؤهلة والمدربة التي يحتاجها سوق العمل مما يضمن استمرارية الحياة الاجتماعية وتطورها وتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة.
وتدور ماهية التربية الاقتصادية حول تطوير فهم الأفراد للمفاهيم والمبادئ والوعي بالقضايا الاقتصادية وتطوير المهارات المالية لدى الأفراد وتنمية القدرة على إدارة مواردهم المالية، وصناعة واتخاذ القرارات المالية المدروسة، وفهم مفاهيم الاقتصاد الأساسية، والفهم العام لكيفية عمل الاقتصاد وتأثيره على الحياة اليومية.
وتسعى التربية الاقتصادية إلى تنمية مهارات التفكير النقدي والابتكار في مجالات الاقتصاد وريادة الأعمال، مما يمكن الأفراد من التفاعل بفعالية مع التحديات الاقتصادية التي تواجههم، وهذا يستدعي توافر أفراد متخصصين يمتلكون الثقافة الاقتصادية التي تجعلهم قادرين على التعامل مع التحديات التي تواجههم، وهذا يتطلب تربية اقتصادية وتنمية الوعي بالاستهلاك المستدام.
وفي هذا الإطار نجد أن التربية الاقتصادية تهدف إلى تنمية الوعي بالقضايا الاقتصادية وتطوير المهارات المالية لدى الأفراد وفي مقدمة هذه القضايا الاستهلاك المستدام، وإيضاح أهمية استخدام الموارد بشكل يحافظ على البيئة ويضمن استدامتها للأجيال القادمة، وهذا يجعل التربية الاقتصادية تؤدي دوراً حيوياً في التوعية بمفهوم الاستهلاك المستدام والعمل على تشجيع الأفراد على اتخاذ قرارات استهلاكية مدروسة ومستدامة.
وهنا نوقن أهمية المؤسسة التربوية التي يمكنها أن تسهم من خلال برامجها المتخصصة في تطوير المهارات اللازمة للأفراد للمشاركة في الاقتصاد المستدام من خلال تضمين مواضيع مثل الإنتاج المستدام، والاستهلاك الذكي، وإعادة التدوير، وتقليل الهدر، ومن ثم تنمو ماهية التفكير النقدي حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ويستطيع الفرد أن يحلل المعلومات ويتخذ قرارات مستنيرة بشأن الاستهلاك والاستخدام للموارد؛ مما يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر