من حق الأبناء ومن واجبهم أيضا أن يفخروا بالآباء الذين حملوا مسئولية الأسرة بأمانة وساعدوا في تحقيق أحلام أبنائهم بعد أن قاموا بالمطلوب منهم في رعايتهم وتأهيلهم
وسأظل فخورا بأبي -رحمه الله- ذلك الرجل الأزهري البسيط الذي قاد سفينة الأسرة بشجاعة وإيثار وسط محيط الأنواء والعقبات والتحديات ..
ربانا جميعا -نحن الأبناء التسعة- واطمأن علينا قبل الرحيل ومازالت روحه الطاهرة تطل علينا من السماء مساندة ..مشجعة..مطمئنة بإذن الله
**منذ أكثر من خمس وثلاثين عاما.. رحل قبل الفجر إلى عالم البقاء.. أبى الغالى وبعد شهور قليلة من إحالته للمعاش فى عمر الخمس والستين كنت فى زيارته بمنزل الأسرة مساء عقب عودتى من العمل لأطمئن على صحته وأعرف ماذا قال له طبيب القلب من جديد.. وجدته باسما سعيدا يبشرنى ان الطبيب قرر ايقاف سلسلة الأدوية المتنوعة بعد أن أكد فحص القلب سلامته وانه لا يعانى من الخطر بعد الآن.
**لم أكن أعلم انها صحوة الموت وان الأجل قد حان.. تناولنا العشاء وشاهدنا مسرحية كوميدية بالتليفزيون.. عدت إلى منزلى القريب قبل صلاة الفجر بقليل اتصلت بى شقيقتى الصغرى باكية احضر.. فقد رحل الأب العظيم.. ونقلت الخبر إلى أصدقائه الذين يترددون على صلاة الفجر فى المسجد القريب.. بادروا بشهامة للذهاب لمنزل الأسرة.. بعد الصلاة والدعاء له بالرحمة والمغفرة وقبل صلاة الظهر.. تواجد الأقارب والأسرة والأصدقاء وتلاميذه الأوفياء لتشييع الجنازة والصلاة على الجثمان فى مسجد الشيخ بخيت.
**شعرت وكأن الصدمة قد أصابتنى بالعجز والشلل انساب البكاء من القلب.. بينما تفرغ شقيقى الأوسط محمود – رحمه الله – جالسا بجوار الجثمان يتلو آيات الذكر الحكيم عندما خرجنا من المسجد بعد صلاة الجنازة حاملين النعش فى اتجاه المقابر.. حدثت معجزة.. ثقل النعش.. رفض الرحيل.. فقد اتجه النعش إلى مبنى المعهد الدينى المجاور للمسجد والذى أعطاه الفقيد كل عمره.. مدرسا ثم شيخا ومديرا.. فهم الكبار الاشارة ودخلوا بالنعش إلى المعهد.. طافوا بداخله بعدها استكان النعش وخرج من الباب إلى سيارة تكريم الانسان ثم المقابر حتى بعث المثوى الأخير.
**مازالت أحداث الجنازة والعزاء فى خاطرى حتى الآن.. علمت من شقيقتى الصغرى التى كانت معه ليلة الرحيل انه حرص على المرور السريع بكل من يعرفه فى محيط السكن مسلما وكأنه يشعر بقرب الوداع.. بينما توافد على سرادق العزاء أعدادا غير مسبوقة من المعارف والتلاميذ والمحبين.. يستمر العزاء والقارئ الشيخ كامل البجيرمى يرتل القرآن الكريم وفود تأتى وأخرى تغادر.. الكراسى دائما مشغولة.. العشرات يقفون وحتى الآن مازالت سيرته الحميدة تتردد فى أنحاء الحى بالخير ذلك بأن أبى قد أحسن الغرس.. خطاب الزرع والمحصول ظل طوال حياته مجتهدا صابرا عاملا.. باحثا عن الرزق الحلال.. حدد مسئوليته فى اسعاد أسرته ورعاية أبنائه التسعة ودعمهم للحصول على أعلى الشهادات.. غرس فى داخلنا الحب والود واحترام القيم الجميلة.. والسعى الصادق لتحقيق الحلم.
**كان مكافحا.. مخلصا فى كل عمل مارسه.. وجهد قام به.. واجه الأزمات المتتالية بصبر وثقة.. واحترام للنفس واعتزاز بالكرامة ورغم محدودية دخله.. كان كريما بارا بأهله وان الأرملة.. وخصها بأولوية الرعاية.. والحب والوفاء.. كان حاملا لكتاب الله فحفظ الأمانة.. عمل قارئاً للسور فى المساجد.. ومدرسا للشباب يحفظهم المصحف الشريف.. وفق بين عمله الأساسى مدرسا للغة العربية والدين بالمعهد الذى تسلم إداته فيما بعد.. ورحل عنه بعد أن أضاف إلى المبنى القديم فصولاً ومعامل بلغت الـ 39 بتبرعات أهل الخير.. دون أن يكلف الأزهر قرشا واحدا.. وسعى لتكون الأرض المجاورة معهدا اعداديا وثانويا.. حتى يجنب خريجى المعهد الابتدائى الأصلى المشقة والعناء.
**وأذكر انه عمل لبعض الوقت كاتبا للحسابات فى ورشة بلاط مجاورة لمسكننا.. ونجح فى تحفيظ أحد أصحابها القرآن الكريم كاملا بعد أن علمه القراءة والكتابة.. وهكذا فعل مع باقى العمال.
وعندما تحسنت أحواله المادية وأنصفه القضاء.. اتجه للعمل الاجتماعى بجهد فعال فى نشاط جمعية خيرية.. تؤمن أنشطتها لخدمة السكان.. يطول الحديث عن هذا الرجل وما قدمه من عمل نافع فى الكثير من المجالات.. كان يؤكد دائما انه عاش ببركة القرآن وبفهم عميق لتواصل الأجيال ظل يفخر بأبنائه وبناته التسعة الذين أعدهم لخدمة الوطن الغالى.. وكان يصفهم دائما بأنه يشعر بالثراء والغنى فهو يمتلك تسع عمارات.. رحم الله سبحانه الآباء والأمهات وأسألكم الدعاء لهم بسكن الجنات.