في لحظة فارقة من تاريخ الخلق، تجلت قدرة الله -عز وجل- حين أمر الملائكة وإبليس بالسجود لآدم، لا عبادة له، بل تكريما لخلقه.
“الملائكة سجدت طاعة وخشوعا، ممتثلة لأمر خالقها، لكن هذه اللحظة لم تكن امتثالا عابرا، بل كانت مشهدا فاصلا يختبر فيه الله سرائر النفوس.
لكن إبليس وقف أمام هذا الأمر الإلهي بعصيان ظاهر، وقال قولته التي خلدها القرآن الكريم:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (الإسراء: 61)
لم يكن رفضه مجرد امتناع، بل كان تعبيرا عن جوهر نفسه المليء بالكبر والحسد.
رأى في نفسه منزلة أعلى من آدم، وقال بكل غرور:
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (ص: 76).
القرآن الكريم يوضح لنا أن الكبر ليس مجرد شعور، بل هو داء يقتل القلوب والعقول.
الكبرياء الذي أصاب إبليس جعله يرى النار التي خلق منها أسمى من الطين الذي خلق منه آدم، متجاهلا أن خالق النار والطين واحد، وأن التفاضل لا يكون بما خلقنا منه، بل بالطاعة والخضوع لأمر الله.
قد يسأل سائل: هل كان إبليس مخيرا أم مسيرا في عصيانه؟ الإجابة واضحة في القرآن:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (فصلت: 46).
الله لا يجبر أحدا على العصيان، بل ترك لإبليس حرية الاختيار كما تركها لآدم وذريته.
إبليس اختار طريق الكبر، فكانت عاقبته الطرد من رحمة الله:
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (78) سورة ص
رفض إبليس السجود ليس مجرد قصة في طيات التاريخ، بل هو درس خالد للبشرية جمعاء.
الكبر أول خطوة في طريق الهلاك، والحسد بداية كل فساد.
يعلمنا ذلك أن التفاضل بين البشر لا يكون بالمادة أو الشكل، بل بالتقوى والعمل الصالح.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13).
يا نفس ـ احذري أن يكون في قلبك مثقال ذرة من كبر، فإن الكبر يحجبك عن الحق ويجعلك تخسر الدنيا والآخرة.
يا عقل ـ كن واعيا وأدرك أن طاعة الله هي سبيل النجاة.
يا قلب ـ انحنِ لله خاشعا، وتذكر أن الله يرفع من يتواضع له.
فلنتواضع لله، ولنطهر قلوبنا من الكبر، فكم من قلوب هلكت بسببه، وكم من نفوس علت بالتقوى والخضوع للخالق العظيم.