أرى أن هنالك علاقة ارتباطية إيجابية بين مكونات القوة الناعمة تؤدي إلى غاية نتطلع إليها، وننشدها؛ إذ تتمثل في تشكيل بناء الإنسان، ووعيه في ضوء ماهية منظومة القيم، وفي إطار العادات، والتقاليد المجتمعية التي يؤمن بها المجتمع، وتتفق مع الأخلاق الحميدة؛ ومن ثم تولي حكومات الدول، ومؤسساتها الوطنية عناية، ورعاية، واهتمام خاص بثلاثية القوة الناعمة، والمحددة في الثقافة، والفن، والإعلام؛ وذلك لما لها من تأثير خطير على الخطط التنموية، وما يرتبط بها من مجالات متنوعة.
وأعتقد أن القوة الناعمة لا تصب في مصلحة التنمية فقط، بل تشمل كافة الأطر الحياتية؛ حيث تضمن تحقيق حالة من التوازن بين المدخلات، والمخرجات، وهنا تمارس دورًا فاعلًا أثناء العمليات؛ ومن ثم تلبي احتياجات المجتمع بصورة يرتضيها، كما تفتح مسارًا للتطلعات المستقبلية المشروعة، التي تحقق له جودة الحياة، في ضوء استراتيجية شاملة تستهدف التنمية، والنهضة، وما تتضمنه من إعمار، وبناء بشكل مستدام.
وندرك أن شعبنا العظيم له طبيعة خاصة تبدو جلية في تدينه؛ حيث يمتلك المعتقد الذي يستل منه القيمة التي تشكل في تمازجها مكونه الثقافي، الذي يتذوق طعمه في لون فنونه، وتراثه، وهذا يؤكد مسلمة لا جدال حولها؛ ألا وهي هويتنا الثقافية الدالة على حضارتنا المتجذرة، وهنا نتلمس دور الفن، وما يقدمه لنا من أطروحات غنية متعددة، ومتنوعة تصب في بوتقة بناء الإنسان.
واكتمال الدائرة يكمن في الإعلام الذي يمتلك محتوى هادفا، يقدم من خلال منابره، المرئية، والمقروءة، والمسموعة، وبالطبع تذهب ثمرته في تعزيز البنى العرفية التي تنمي الوعي الثقافي، بما يضمن فكرة تعزيز الهوية، ويُعد هذا النمط من الوعي بمثابة سياج واق من صور، ومداخل الغزو الثقافي، وبالطبع يجد الفن طريقه السريع في توصيل رسالته عبر البوابة الإعلامية، وأدواتها النافذة، والسريعة الانتشار.
وهذه الثلاثية المتناغمة التي تحدثنا عنها سلفا تساعد في إيجاد مناخ داعم للذوق العام، الذي يميز بين السلوك المرغوب فيه، وغير اللائق؛ فهناك إشكالية لا ننكرها؛ ألا وهي ولوج الفضاء الافتراضي المحمل بعبء من فيض ممارسات مرتبطة بثقافات، لا تتسق معنا على الإطلاق؛ لكن فرضت علينا عبر إعلام عالمي، ومواقع تواصل عديدة، ومنابر إخبارية، جميعها مدعومة من شركات عابرة للقارات؛ لذا بات تعزيز القوة الثلاثية أمرًا، لا مناص عنه؛ كي نحد من الأثار الناجمة عن المصادر التي أوردناها، ويصعب التحكم فيها.
وقد أضحت شكوى الكثيرين من سلبيات تمخضت عن غزو ثقافي، استهدف دون مواربة النيل من قيمنا، وأخلاقنا، ولغتنا، ولا نغالي إذا قلنا أنه أصاب هوية كثير من الشباب بالضعف، وصنع حالة من الترهل تجاه ممارسات اعتدنا عليها في الماضي، وتركناها مرغمين الآن، بحجة أنه لم يتوافر الوقت للقيام بها، مثل: التزاور، والتجمع الأسري في إطاره الكبير، والصغير؛ فالجميع أصبح مشتتًا، لا يكفيه يومه؛ ليؤدي مهامه المتعددة.
ما أحوجنا اليوم لهذه القوة الناعمة!، التي تخفف من وطأة الأثر المدمر للثقافات الوافدة، والتي أطاحت بالكثير من الثوابت، وأفرغت العقول من فكرة الوعي بأنماطه المختلفة؛ ليحل محله مطامع الطبيعة النافعة، التي تبحث عن غرائزها بأساليب متعددة، ولو كانت غير مشروعة؛ فقد أضحت الغاية تبرر الوسيلة، وصارت القيم كالثياب البالية التي يرتديها، وأضحى متخلفًا عن ركب التقدم، والتحضر، والرقي الباهت المزعوم.
إننا في أشد الاحتياج؛ لنتضافر من خلال ما لدينا من ثلاثية متناغمة نستطيع من خلالها أن نبي خبرات جديدة تتضمن فكرا رشيدا يرتبط باتجاهات إيجابية نحو ما نملكه من مقدرات، يمكننا أن نعظم منها؛ ومن ثم نحدث تغيرًا ملموسًا في كل شيء، وتعود حالة الاستقرار المجتمعي التي لا تنفك عن سماحة في التعامل، وجبر للخواطر، وعمل جاد دؤوب نحو تحقيق أهدافنا؛ فتستقر النفوس، ويهدأ الوجدان المنشغل دومًا؛ ليجد متنفسًا؛ للاستمتاع بمفردات الطبيعة، والعلاقات الاجتماعية السوية بكافة صورها.
ودعوني أكون أكثر مصارحة، ومكاشفة تجاه الواقع المعيش؛ حيث أبدي دهشتي بمن يكرر مقولة ليس هناك فائدة؛ فالأمر بأيدينا، وطريق الإصلاح قريب، ليس ببعيد، وهنا يتوجب علينا أن نعمل سويًا، وبشكل جاد تجاه تعضيد القوة الناعمة المصرية، التي أعتقد أنها تستطيع التغيير للأفضل، ومعالجة المعوج، وتصويب الخطأ من فكر، وممارسة؛ لنصل إلى غاية ليست مستحيلة، تتمثل في ترسيخ العادات، والتقاليد الأصيلة، وتقوية النسق القيمي النبيل.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر