يتصور بعض المخدوعين العرب أنهم في مأمن من مؤامرات إسرائيل وأطماعها الإقليمية، وأن الفلسطينيين ارتكبوا أكبر خطأ عندما واجهوا إسرائيل بالسلاح، ولو أنهم تفاهموا معها بالحسنى لوصلوا إلى حلول تنهي الصراع الطويل، فالمشكلة عندهم في المقاومة وليست في الاحتلال، وبمرور الزمن صار هؤلاء المخدوعون يشكلون تيارا لا يستهان به، يقف دائما ضد المقاومة، ويسخر من رموزها، ويلتمس الأعذار للإجرام الإسرائيلى، في الوقت الذي هبت كل شعوب العالم تندد بالإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة والضفة الغربية، وتطالب بوقف العدوان فورا.
ورغم الكوارث التي حلت بأكثر من بلد على يد الإسرائيليين منذ أن تحول العرب إلى استراتيجية السلام، فإن هؤلاء المخدوعين مازالوا يرددون مقولات ثبت بالتجربة أنها سطحية وغير واقعية، وأنها تطرح لتبرير تخاذل المتخاذلين وتقاعس المتقاعسين، فالصراع مع إسرائيل ليس صراع حدود، وإنما صراع وجود، وليس سببه حواجز نفسية وكراهية تاريخية، بل احتلال أراض واستئصال شعوب وتدنيس مقدسات، ولن ينتهي بالتصافي والتراضي، لأن إسرائيل لن ترضى إلا بمزيد من الأرض ومزيد من الهيمنة.
إسرائيل مشروع استعماري غربي توسعي، ليس له حدود، وبروتوكولاته مكتوبة معلنة، لكن المخدوعين يغمضون أعينهم حتى لا يروا الحقيقة، فالحقيقة مكلفة، وهم لايريدون أن يتكلفوا شيئا من استحقاقات الرباط الوطني والقومي والديني الذي تفرضه اللحظة الراهنة في مواجهة هذا المشروع الصهيوني الاستيطاني.
وقد دفع الخداع هؤلاء إلى القول بأن ما تفعله إسرائيل اليوم في غزة ليس إلا ردا على طوفان الأقصى، فهل كان طوفان الأقصى هو سبب رفض إسرائيل لمبادرة السلام العربية المعروضة عليها منذ عام 2002، أو كان سبب غزوها للبنان عام 1982 وما بعدها، أو كان سبب ضمها للقدس والجولان، أو تدميرها للمفاعل النووي العراقي عام 1981، والمفاعل النووي السوري عام 2007؟
والآن، بعد 15 شهرا من الإبادة المستمرة صار العالم كله يطالب يوقف العدوان، لكن حكومة إسرائيل ترفض وتتلاعب بالجميع، تعطي تصريحات متفائلة بشأن اتفاق إنهاء الحرب وتبادل الأسرى، ثم تستدير وتضيف شروطا جديدة تعطل بها مسيرة التفاوض، وهو أمر ليس بمستغرب على قوم جادلوا نبيهم فأرهقوه وأكثروا جداله حتى قالوا: “أرنا الله جهرة”.
وخلال الأيام القليلة الماضية خرجت تصريحات على لسان مسئولين من إسرائيل والمقاومة والوسطاء المشاركين، تشير إلى إحراز تقدم نسبي في المفاوضات، ووضع اللمسات الأخيرة على اتفاق الصفقة، لكن نتنياهو فاجأ الجميع بمطالب إضافية أدت إلى تأجيل الاتفاق، كما قالت هيئة البث الإسرائيلية، ثم اعترف هو بأنه “كان هناك تقدم حذر، لكن لا أعلم كم سيأخذ الاتفاق من الوقت”.
ووفقا لما ذكرته (القناة 12 الإسرائيلية) فقد تم إعداد قائمة بأسماء السجناء الفلسطينيين الذين سيفرج عنهم في المرحلة الأولى من عملية التبادل، لكن نتنياهو تدخل في آخر لحظة كالعادة وأضاف شروطا أدت إلى تأخير الإعلان عن الاتفاق، وفتحت الباب لجولة جديدة من المفاوضات حول القضايا الأكثر تعقيدا، التي تتعلق بمستقبل قطاع غزة والانسحاب الإسرائيلى وعودة النازحين إلى مناطق الشمال وإدارة المعابر الحدودية.
وفي مواجهة الضغط الداخلي المتزايد سارع نتنياهو إلى إلقاء مسئولية تأخير الصفقة على المقاومة، وتبعته الأبواق الأمريكية الرسمية، وتبعهما المخدوعون العرب، الذين يتلمسون الفرصة لإدانة المقاومة بأي شكل، بينما تعترف صحيفة (ها آرتس) الإسرائيلية بأن “وراء فشل الاتفاق حرص نتنياهو على البقاء في السلطة، وتخوفه من تفكك الائتلاف الحاكم إذا رفض (الوزيران المتطرفان) إتمار بن غفير ويتسلئيل سيموتريتش بنود الصفقة، وعندما يرغب نتنياهو في إتمام الاتفاق فإنه سيفعل، ولو كان الثمن إنهاء الحرب والعودة إلى ما قبل الحرب، كما فعل مع لبنان، حتى وإن لم يكن هذا هو الوضع الأمثل لإسرائيل”.
لقد مارس نتنياهو ضغوطا هائلة على المقاومة كي تكون الصفقة (جزئية)، يحصل بها على أسراه مقابل إطلاق سراح عدد من المعتقلين الفلسطينيين مع هدنة مؤقتة، ثم يواصل بعدها حرب الإبادة الشاملة، عندما لا يكون بيد الفلسطينيين ما يفاوضون عليه، لكن ضغوطه فشلت بإصرار المقاومة على أن ثمن الأسرى وقف العدوان والانسحاب الكامل من غزة وإطلاق سراح أعداد من المعتقلين في سجون إسرائيل، وإزاء هذا الفشل عاد نتنياهو لتكثيف الضغط العسكري الوحشي على المدنيين، وتدمير ما تبقى من البنايات في مناطق الشمال، وارتكاب محرقة نازية في مستشفى كمال عدوان، وطرد المرضى والطواقم الطبية منه، واعتقال الأطباء وتجريدهم من ملابسهم ودمغهم بالإرهاب.
لكن رد المقاومة جاء قويا وغير متوقع، عبر الكمائن والاشتباك المباشر مع الجنود والضباط، ما كبد العدو خسائر فادحة في الأرواح والسلاح، واستولت المقاومة على طائرة استخباراتية، وأطلقت صواريخها على القدس المحتلة، ومن العجيب أن تركز المقاومة عملياتها في الشمال، وفي جباليا تحديدا، التى اعتبرها جيش الاحتلال قاعدته المستقبلية بعد تهجير أهلها، وأن تثبت قدرتها على إطلاق الصواريخ بعد أن تصور العدو أنها قد حوصرت بالكامل، وحرمت من منافذ تسريب الأسلحة بسقوط نظام بشار في سورية وانهيار ما يسمونه “محور المقاومة”.
ولعل حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت رفع شرف المقاومة بسقوط نظام بشار، حتى يدرك من لا يدرك أن مدد المقاومة من الله جل شأنه وليس من المحاور، وأن الحسابات الربانية ليست مرتبطة بحسابات المحاور، وأن في المقاومة جوانب كثيرة لا نعلمها، لكننا نتيقن منها بالقرآن الكريم وتجارب المسلمين، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وكم قضى مظلومون مستضعفون على ظالمين متجبرين، وعناصر القوة ليست السلاح فقط أو الأحلاف، بل رأسها الإيمان، وقد يأتي نصر الله بالرعب في قلوب الأعداء، وقد يأتي بالدعاء، “وما يعلم جنود ربك إلا هو، وما هي إلا ذكرى للبشر”.