وهكذا تدور الدوائر ،فما بين الممكن والمستحيل يثور جدل واسع عبر مختلف الأوساط السياسية والاقتصادية ،مع تفاؤل حذر بمدي قدرة مجموعة “بريكس” في إنجاز مهمتها المصيرية نحو منافسة فاعلة وحقيقية للقوي الغربية والتخلص من “هيمنة” الدولار وخفض قيمته مقابل العملات الأخري.
وتتابين الرؤي نحو تحديد ملامح مستقبل “بريكس” ، ومدي قدرة دوله الكبري كالصين وروسيا علي إزاحة الغريم التقليدي أو علي الأقل مزاحمته في قيادة دفة الاقتصاد الدولي والتأثير الفاعل بعيدا عن الأمنيات والتطلعات.
ومع انطلاقة عام جديد تتوق شعوب الدول الناشئة والساعية للنمو لفكرة التكامل وتعدد الأقطاب والتحرر من الهيمنة الغربية المطلقة ،أملا في حياة أفضل، وبعيدا عن الضغوط المتواصلة ،واتقاء لشرور الأزمات المفتعلة والمتغيرات المقصودة بهدف الإخلال الدائم بمنظومة التوازن الاستراتيجي الدولي لصالح القوي النفعية التقليدية التي تقود العالم قولا وفعلا ،وحتي إشعار آخر!.
ويبدو أن الطريق ليس ممهدا ومفروشا بالورود لتحقيق تلك الطموحات ،فالبعض يري أنه ووفقا لمؤشرات الواقع وطبيعة الحال ، فمن المستحيل أن تفرط أمريكا وحلفاؤها في مرتبة الصدارة السياسية والهيمنة علي دنيا الاقتصاد والتجارة والأعمال.
وفي هذا الإطار جاءت تصريحات “ترامب” قبل عدة أسابيع بعد نجاحه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وقبل توليه دفة القيادة من جديد ،والتي أكد فيها أنه سيقف بكل حزمة أمام طموحات دول “بريكس” ، التي تسعي لتحجيم الدولار وتقليص الاعتماد عليه والتخلص التدريجي من سطوته !.
وهدد ترامب أنه سيفرض ضرائب ورسوما علي الدول التي ترفض التعامل بالدولار قد تصل إلي 100% ،علي صادرات هذه الدول مع فرض رسوم أخري علي المنتجات الصينية ودول أخري.
وقد أثارت هذه التصريحات نقاشا واسع النطاق بين المحللين والخبراء ،ويري فريق أن أمريكا لن تقف مكتوفة الأيدي ولن تتنازل عن عرشها بصمت وتهاون.
وعلي الجانب الآخر يري البعض أن المستقبل يصب في صالح دول “بريكس” بعد أن نجحت في اتخاذ عدة إجراءات نحو تدشين عملة موحدة ، وإنشاء بنك تمويل خاص بمجموعة “بريكس” وتوسيع التعامل بالعملات الرقمية وإتاحة المعاملات التجارية بالعملات المحلية.
وكلها خطوات نحو التحرر التدريجي وتحقيق نجاحات كبيرة في هذا الصراع الوجودي ،وربما تتمكن من إزاحة الدولار عن مسرح الزعامة وتصحيح مسارات ومعادلات التعاون الأممي،وتحقيق معدلات تنموية غير مسبوقة للدول الأعضاء ،وفقا لقوانين جديدة تقضي ولو تدريجيا علي اسطورة القطب الأوحد.
وفي هذا الشأن أصدر بنك “ساكسو” الدنماركي مجموعة من التوقعات الاقتصادية غير التقليدية لعام 2025، تتضمن سيناريوهات جريئة قد تُحدث تحولات جذرية في الأسواق العالمية إذا تحققت من أبرزها انهيار الدولار الأمريكي !.
كما توقع البنك أن تؤدي سياسات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، بما في ذلك فرض رسوم وقائية على الواردات ومراجعة العلاقات التجارية، إلى تراجع الدولار بنسبة 20% أمام العملات الرئيسية و30% أمام الذهب.
كما رجح أن تزداد قوة مجموعة “بريكس” عبر اعتمادها معاملات رقمية مدعومة بالذهب، ما قد يؤدي إلى تضاعف حجم سوق العملات المشفرة إلى 10 تريليونات دولار.
ويري المراقبون أن تهديدات “ترامب” بفرض الرسوم الجمركية مع الإجراءات والسياسات المتوقعة التي ينوي تفعيلها ،ستهدد بإشعال فتيل حرب تجارية دولية، سيشهد العالم تداعياتها السلبية اعتبارا من الشهور الاولى لعام 2025، ولن تكون هذه الحرب في مصلحة أحد!.
وبحسب تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، فإن تهديدات الرئيس “ترامب” بفرض رسوم جمركية باهظة على الواردات الأميركية تأتي في أعقاب تهديدات مماثلة وجهت إلى المكسيك وكندا والصين في وقت سابق في إطار تدابير عقابية لإجبار شركاء الولايات المتحدة التجاريين على الامتثال لمطالبه” ، حيث أعلن “ترامب” إنه سيفرض رسوما جمركية بنسبة 25 % على جميع الواردات من كندا والمكسيك، و10% إضافية على السلع الصينية، متهما دول الجوار بالسماح بالهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات.
وقد أثارت هذه التهديدات احتمال اتخاذ إجراءات مضادة من جانب المكسيك.
وفي وقت سابق اتهم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، القوى الغربية باستخدام الدولار كسلاح، وأعلن في قمة مجموعة “بريكس” الأخيرة في قازان بأن العقوبات المفروضة على روسيا منذ بدء الحرب في أوكرانيا تقوض الثقة في هذه العملة وتقلل من قوتها.
وقال بوتين: “لسنا نحن الذين نرفض استخدام الدولار.. ولكن إذا لم يسمحوا لنا بالعمل، فماذا يمكننا أن نفعل؟!.. نحن مضطرون إلى البحث عن بدائل”.
ويري خبراء أن تهديدات “ترامب”، سيكون يكون لها نتائج عكسية علي الاقتصاد الدولي، وتنذر بتصاعد المواجهة بين الاقتصادات الناشئة والدول الغربية.
كما تعكس حقيقة المخاوف الأميركية من فقدان هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، وقد تؤدي إلى تأثيرات متعددة على خطط وأهداف مجموعة البريكس.
وقد تدفع المستثمرين والشركات إلى التردد في إقامة شراكات مع دول “البريكس” حال اتخاذ تلك الدول خطوات باتجاه تدشين عملة بديلة للدولار خوفاً من تبعات هذه الإجراءات العقابية، ما قد يؤثر على تدفق الاستثمارات في المنطقة.
وفي تقديري أن الضغوط الأميركية قد تؤدي إلى تقوية التعاون بين دول “البريكس”، مما يعزز موقفها كمحور عالمي يسعى لموازنة الهيمنة الاقتصادية الغربية.
وقد تعمق هذه التحركات الانقسام ومزيدا من الاستقطاب في النظام الاقتصادي العالمي.
ودعا بعض الخبراء ومن بينهم الخبير الاقتصادي د.علي الإدريسي إلي ضرورة أن تتعامل دول “البريكس” مع هذه التهديدات بخطوات استراتيجية، أبرزها:
تفعيل وتطوير المؤسسات المالية الخاصة بها، مثل بنك التنمية الجديد ،تنويع مصادر التمويل والأسواق لتقليل الاعتماد على الأسواق الأميركية،وإظهار قدرتها على مواجهه الضغوط الاقتصادية الأميركية.
ويتوقع بأنه من المحتمل أن نشهد في المستقبل القريب تصاعدا في الحرب التجاريه بين الولايات المتحده ودول “البريكس” وهو ما قد يعيد تشكيل خريطة الاقتصاد العالمي”، على حد تقديره.
وحتي كتابة هذه السطور لم نشهد تأثيرا فعليا لتجمع دول “بريكس” علي المستوي الاقتصادي ، لدي الدول الأعضاء ،وبصفة خاصة فيما يتعلق بتقليل فاتورة الاعتماد علي الدولار الأمريكي،فما يزال مهيمنا ،ويمثل نحو 58 % من احتياطيات النقد الأجنبي في العالم، وفقاً لصندوق النقد الدولي، ولا تزال السلع الأساسية الرئيسية والإستراتيجية مثل النفط تُشترى وتُباع في المقام الأول باستخدام الدولار!.
ولكن هيمنة الدولار مهددة، مع تزايد حصة مجموعة “البريكس” في الناتج المحلي الإجمالي واتجاه نية التعامل في التجارة بعملات غير الدولار وهي العملية المعروفة باسم إزالة “الدولرة”.
كما تشير الأبحاث إلى أن دور الدولار الأميركي باعتباره العملة الاحتياطية العالمية الرئيسية ليس مهدداً في المستقبل القريب وبحسب نموذج “المجلس الأطلسي” الذي يقيم مكانة العملات، فقد كشف عن أن الدولار “آمن في الأمد القريب والمتوسط”!.
وعلاوة علي تحديات المواجهة التجارية المحتملة مع الولايات المتحدة ،فهناك تحديات أخري تواجه طموحات دول “بريكس” تتنوع ما بين التحديات الاقتصادية ،السياسية ، البيئية ،الإجتماعية ، الثقافية ،التكنولوجية
،والسيبرانية وغيرها.
ويبدو أن ضبابية الرؤية السياسية وتنسيق المصالح الاستراتيجية سليقي بظلال سلبية علي مستقبل “بريكس” وربما تحبط تطلعات شعوب العالم نحو التحرر من قيود الدولار وأغلال الهيمنة الغربية علي دنيا الاقتصاد والأعمال ، وعلي مقاليد الاستثمارات الرأسمالية الأممية ،وإدارة دفة سياسات العالم.
ويبدو أن فكرة تعدد الأقطاب ،ما يزال حلما صعب المنال ،فهذه الدول لن تتنازل عن العرش بسهولة، وستقاتل حتي الرمق الاخير وما تزال تمتلك قدرات خاصة علي التلون وفرض سيادتها وفقا لمصالحها ومخططاتها الاستراتيجية ،ولو علي علي حساب القيم الإنسانية والأخلاقية.
ومع تصاعد وتيرة التحديات التي تقف حجر عثرة أمام طموحات دول “بريكس”، أتصور أن تحدي المنافسة التجارية وتقليل الورادات وتطوير الإنتاج المحلي قد يكون هو التحدي الأهم نحو تحجيم الاعتماد على الدولار.
وأتصور أن مصر تمتلك رؤية متوازنة وحيادية بين “المعسكرين” الشرقي والغربي ولديها برامج طموحة للاستغناء عن الكثير من الورادات ،والفكاك من قيود العملة الصعبة ولو بصورة تدريجية..فقط المزيد من الوعي بحجم التحديات والمخاطر وتعزيز التكاتف وإرادة الإنجاز والبناء لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ،والغد الأفضل لكل أبناء الكنانة.