تُعد الأسرةُ لبنةَ هذا المجتمع، ونهضته ورقيُّه، واستقراره، مما يجعلنا نلقي شعاعًا من الضياء على من تقع على عاتقه مسئولية الحماية، والرعاية في صورتها المتكاملة؛ إنه الأب الذي يتمالكه دون جدال شعورٌ يسمى بالأُبُّوةِ؛ فمن خلاله يخطط، ويعمل، ويُجِدُّ، ويجتهد؛ ليوفر مقومات الحياة الكريمة لأسرته، التي تشعرهم بالسعادة، والطمأنينة، وتُعْلى من قدره، وقيمته بين جميع أفرادها، دون استثناء.
إنها المسئولية الثقيلة، والمهمة المقدّسة التي أكدت عليها شرائعُ السماء، وأنزلت دستور الفصل فيها؛ فصارتْ المنزلة كبيرة، ومقامها شامخٌ، تُحتِّمُ على هذا الأب أن يعملَ، ويكابد من أجل أن ينال الوقار، والهيبة، والاحترام، والثقة، والدعم المعنويَّ من جميع أفراد أسرته، كيف لا؟، وهو الأمينُ الذي يحاول تهيئة السبل لتنشئة جيلٍ يستكمل مسار الإعمار، ويعي ماهية المسئولية، ويدرك ضرورة قيام الأسرة على أسسٍ، ومعاييرَ شفّافةً تتسق مع فلسفة الاستخلاف.
ولا جدالَ تجاه أهمية، ومعنى وجود الأب في المُكوُّنِ الأُسَريّ؛ حيث هو منبع التأمين الذي تكسوه الحكمة، والفِطْنةُ، والتريّثُ في التعامل مع كافة المتغيرات، وأنماطها المختلفة، كما أن الضابط لمعياريّةِ التربية التي إذا ما انحرفت سارع في تقويمها، وإصلاح المُعْوّجِ منها؛ فاليقظة أداته، والتفكير في مصلحة الجميع جُلّ اهتمامه، وتقديم الأولويات مُرْتكزٌ رئيسٍ، وتأهيل، وإعداد صغار الأسرة؛ لخوض غمار الحياة، هو بؤْرةُ وجدانه التي لا تتوقف حتى في منامه.
والأبُّ مُتَفرّدٌ، حيث نجد أن عطاءه يوْسَمُ بالشمولية دون غيره؛ فلا يقتصرُ على محيط، وحيّزِ أسرته فقط، بل يحوي أسْرته الكبيرة؛ فتراه راعيًا لوالده، ووالدته إذا ما أمدَّ اللهُ في عمرهما، وتراه يحنو على إِخوته الذكور منهم، والإناث إذا ما أكرمه اللهُ بهم، وتراه يصل أرحامه قدر مُسْتطاعِه إذا تبقى منها ذو رَحْمٍ، وتراه يَفيِضُ كرمًا لأحفاده إذا ما مَنّ اللهُ – تَعَالَى – في ذلك، وتراه يواصلُ، ويتواصلُ مع جيرانه، والآخرين بما يُسَاهِمُ في ملئ وجدانياتهم بالمحبّةِ، والحنين، والتّقارُبِ، والاندماجِ المحمودِ.
إنه الأبُّ قليلُ الشّكْوَى الذي يعمل دون ضجّةٍ، ويدفع ثمنًا لذلك من راحته، وسعادته وصحته، بل، ويكافل من أجل تحقيق مطالب، واحتياجات مشروعة؛ ليوفيها لدى أفراد أسرته؛ فيتحمل الأسى، ويسْهرُ يفكر كيف يدبر مآله؟، وأموره، ولا نغالي إذا ما قلنا إنه يناضلُ إلى الغاية، والنهاية من أجل إسْعادِ الآخرين، وإضْفاءِ البهجة على وجوههم؛ حينئذٍ لا يشْعرُ بتعبٍ، ونصبٍ، وتتبعثر الهمومُ، والغمومُ فوق عتبِ أُسْرته التي يرى فيها عوضًا عن نصبه، وتعبه الذي لم يذهب سُدىً.
إنه ميزانُ الاستقرار في الأسرة؛ فهو حريصٌ على أن يُحْسِنُ استخدام سُلْطاتهِ قدْرَ إمكانه؛ فيتجنّبَ أن يظْلمَ أحدًا، أو أن يلحق الضرر بأيّ فردٍ من أسرته الماديّ منه، والمعنويّ أو أن يضع المُعوّقاتِ التي تحدُّ من مسيرة تقدم أحد أفراد أسرته، أو أن يُقلِلُّ من جهْدٍ، ومجْهودٍ، وقدْرِ، ومقْدارِ أُسْرَتهِ، وفي مقابل ذلك تجد أُمنيّاتِه، وطُمُوحَاتِه، وآماله تجاه أن يكون الجميعُ في حيّزِ أُسْرَتِهِ، والأفضل منه في كل شيء، وهذا لن تجْدَهُ، ولا تبْحثَ عنه بعيدًا عن الأبِّ في الدنيا بشتّى رُبُوعِها.
إنه الأبُّ المقوّمُ، والمُهَذّبُّ للخلق، والسلوك برفقِ، وتُؤَدَةٍ؛ فلا يكَلُّ، ولا يَمَلُّ من نُصْحٍ، وإرشادٍ، وتوجيهٍ، ومناقشةٍ، وحوارٍ على مدار السّاعةِ؛ ليمْنحَ أبناءه الثقة بالنفس، ويحثُّهُم على الإيجابيّةِ في السلوك، وتحرّى الدقّةَ في العمل، وتقْديرِ شُعور الآخرين؛ كي نحافظ َعلى حُقُوقِهم، إنه أداةٌ فاعلةٌ في تعويد الابْن، أو البنْتِ في تحمُّلِ المسْئوُلية؛ فرُغْمَ حنيّتِه إلا أنه يدرك حتميّة المُنازلةِ التي تصنع الأبْطالَ من الرجال، والنساء على حدٍّ سَواءٍ.
وندرك أنه حال غياب الأبّ لأي سبب كان عن أسرته؛ فإن التربيةَ، وإنماءِ أركانها، وأسسها لدى الأبناء لأمرٌ بالغُ الصُعوبةِ، والمشقّةِ لمن يقوم بها بغضّ النّظَرِ عن إمكانياته، ومقوماته؛ فوجودُ الأبّ بشخصيّته المُهيِبَةِ، وتأثيره الفعّالِ، وحنانه الفيّاضِ، وتحمُّلهِ غير المسبوق، وقدْرتُه على التواصل، وإدراكه لمطالب الآخرين، يجعل مهام التربية نافذةَ التحقيق في ظلّ معرفته بالطرائق، والاستراتيجيات التربوية التي تسهم في بناء شخصية ذويه، وتعزيز من لديهم من فكرِ قويمٍ، وميولٍ، وهواياتٍ مطلوبةٍ، وصَقْلٍ لخبراتٍ يستنير بها الفردُ مما يمّهِدُ طريقَه.
إن الأبَّ، ومحاسنَه، وإحسَانه، ومسْئُولياتِه، وأدْوَارِه التي لا تنتهي داخل حيّزِ الأُسْرَةِ، ومسْكنِها، وخارجِ إِطَارِها، لكونه القدوة، والقائد، ورعاية الآخرين قد باتتْ من مَهَامِه التي يصْعُبُ التَّخلّي عنها، أو تجاهُلهَا، وحريُّ بنا أن نُقَدّمَ له التحيّةَ، والتَّقْديرَ، ونُثّمِنُ جُهُودَهُ المُسْتدَامةُ، ونشدُّ على عضده؛ لتستمر مسيرة العطاء، وندعو له من قلوبنا بأن يعينه اللهُ – تعالى – في أن يتحمّلَ ما وُكِّلَ إليه، وأن يُقَدّرَه على أن يقدم كل ما يساهم في بناء جيلٍ، يرفع رايةَ هذا الوطنَ عاليةً، خفاقةً.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر