السبت الماضى كان أول أيام شهر رمضان المبارك, هذا الشهر الفضيل الذى نأمل أن يكون بداية مرحلة جديدة فى حياتنا, وأن تكون فاتحة خير علينا وعلى وطننا.
ولعلنا بالأمس وربما الأيام السابقة, عشنا وعانينا واحدة من أسوأ مظاهر حمى التسوق, والتى تحول تفكيرنا إلى بطون مفتوحة تبحث وتفكر وتتحايل على أبسط غايات رمضان, وتحوله إلى مجرد مائدة شهية تحفل بما لذ وطاب, تتفنن فى إدارتها ربة البيت, وتجعل المعركة الحقيقية تنتهى باستسلام مريب لشهوات الأكل والشرب, مع إن المفروض أن تبدأ مرحلة جديدة من مواجهة الذا ت وأطماعها.
من يمشى بالأسواق, ويرى العربات المملوءة عن آخرها بما يلزم أو لايلزم,لايملك إلا أن يشفق من تلك الحالة الذهنية التى حصرت هذا الشهرالكريم – ونحن معه بالطبع- فى نموذج استهلاكى بحت, ليس على استعداد لأن يقاوم إغراءات المطبخ, أو يقبل بالتنازل عن بعض الأشياء التى ينتهى مصيرها إلى أقرب صندوق للقمامة, بينما هناك الكثير منا – خارج هذا المجتمع وربما داخله – يبحثون عما يسد رمقهم.
نحن إذن بحاجة إلى إعادة صياغة أنماط حياتنا, واستثمار حالة الصيام الربانية تلك, للنظر فى نموذج ترشيدى حكيم, بين مانحتاجه ضرورة, ومالانحتاجه ترفا, وفى حاجة أكثر- على الأقل فى هذه الأيام المباركة- للاسترشاد بسيرة المسلمين الأوائل, والتأكد من أننا نأكل لنعيش لانعيش لنأكل, لأن الحكمة الاسلامية الخالدة تريد صيام الروح والجوارح, لاجوع البطن فقط.
نحتاج لأن نستلهم مبادىء ديننا الحقيقية, ولانكرس برامج البطون المتحركة التى تمشى على قدمين, ولانلقى بسلبياتنا الشخصية فى سلوكنا, وفى أعمالنا على الصيام وعلى رمضان.
موظفونا يتعللون بالصيام, ومصالحنا الحكومية تتحجج بالصيام, وفوضى شوارعنا خاصة قبيل الإفطار تلوم رمضان, مع إن رمضان- أيها السادة- هو نفسه شهد فجر الاسلام ومعاركه الحقيقية من أجل وجود الرسالة ووجودنا نحن. رمضان مبارك.
تزينت المساجد واكتست المآذن بالأنوار والزخارف, وامتدت شوادر بيع الياميش والفوانيس من كل شكل ولون بالميادين والأحياء والقرى, واحتفظت الأحياء الشعبية على امتداد تاريخ مصر المحروسة بتفردها السنوى بمشاركة الجيران فى تعليق الزينة احتفالا بحلول شهر رمضان المبارك, وشهدت الأسواق والمحال التجارية حالة استنفار قصوى , وتنافسا بين التجار فى عرض السلع والمواد الغذائية وتقديم التخفيضات للمشترين, وعلى الجانب الآخر انطلقت المعارض وقوافل الخير تجوب المحافظات لتوزيع”كرتونةرمضان” على الأسر الأكثر احتياجا, وصولا إلى المناطق الحدودية لتخفيف الأعباء عن المواطن, وتوفير السلع والمواد الغذائية بأسعار مخفضة, ومواصلة دعم الفئات الأكثر احتياجا خلال الشهر المعظم , وتفعيل آليات مراقبة أسعار السلع فى الأسواق بصورة يومية, فضلا عن توسيع نطاق تجربة معارض “أهلا رمضان”, و”سوق اليوم الواحد” فى القرى والريف لضمان وصول السلع إلى المواطنين بأسعار مناسبة.
الوضع العالمى المأزوم الذى يشهده العالم حاليا حيث تتشابك النزاعات المسلحة المتوحشة, والفجوة الاقتصادية والتحديات البيئية والنووية مع تصاعد خطابات الكراهية والتوترات العرقية والدينية, يجعلنا نرجع للنماذج التاريخية التى ساعدت على القضاء على الظواهر المماثلة كحلف الفضول فى مكة قبل الاسلام, الذى شكل نموذجا مبكرا للعدالة فى بيئة تسودها العصبية القبلية, إذ كان يهدف إلى نصرة المظلوم بغض النظرعن الانتماء, مما يبرز قيمة المبادىء الأخلاقية النبيلة كأساس للتعايش السلمى, وأن النبى صلى الله عليه وسلم أشاد بالحلف لاحقا, حيث كان نموذجا لنصرة المظلوم, وتحقيق العدالة الاجتماعية.
لم تذكر صفة فى القرآن الكريم كله كما ذكرت صفة الصبر, ولم تتم الدعوة إلى فضيلة- مع كثرة الدعوة للفضائل- كما تمت الدعوة إلى فضيلة الصبر, حتى لقد تكررت كلمة الصبر ومشتقاتها مائة مرة ومرة فى 44 سورة, والاهتمام بالصبر فى القرآن الكريم يصل إلى حد قول الله سبحانه وتعالى:وبشر الصابرين, والله يحب الصابرين, والله مع الصابرين, بل لقد جاءالحث على الصبر قبل الحث على المرابطة, والاستعداد للقاء العدو فى الآية الكريمة:”ياأيهاالذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (آل عمران 200)
مايحدث فى فلسطين يفتك بأفئدتنا, فهى أرض الأنبياء ومبعثهم, فعلى أرضها عاش سادتنا ابراهيم, واسحاق, ويعقوب, ويوسف, والأسباط ,ولوط, وداود, وسليمان, وصالح, وزكريا, ,ويحيى, وعيسى عليهم السلام, كما زارها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج, وعاش على أرضها الكثير من أنبياء بنى إسرائيل, ولكن من لايعرف, فإن فلسطين أرض مقدسة بنص القرآن الكريم, وهى مباركة أيضا فى قوله تعالى:”سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله”, وفى قوله عز وجل:”ونجيناه ولوطا إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين”, وفى قوله عز وجل:” وجعلنا بينهم وبين القرى التى باركنا فيها قرى ظاهرة”, والقرى التى باركنا فيها فى بيت المقدس , والبركة هنا حسية ومعنوية لما فيها من ثمار وخيرات, ولكونها مقر الأنبياء, ومهبط الملائكة والأطهار.
الأخلاق الحسنة أهم من كثرة العبادات , لأن العبادات ودراستها وفقهها تؤدى فى النهاية إلى علاقة جيدة بين الإنسان وربه, أما فقه المعاملات(الزواج-الطلاق-البيع-الشراء..), ومايشابهها من معاملات بين الشخص والآخرين, فهذه تحتاج إلى عناية ومراقبة أيضا, ذلك أن الله كريم جواد, فقد يغفر مابينك وبينه إن قصرت فى عبادته وطاعته, لكن مابينك وبين الآخرين فيتطلب أن يغفر لك الناس, ويعفوا عنك حتى يغفر لك الله, لذا قال العلماء:”لايطمئن فقه العبادات وحده النجاة من النار”, وكم من شخص ملتزم دينيا تصدر عنه تصرفات لاتتفق مع حسن الخلق, هذه حقيقة يجب أن ندركها, فليس كل متدين خلوقا, خصوصا إذا أخذنا بالمظاهر التى لايمكن إصدار أحكام بناء عليها.
