منذ قرون انتظرت البشرية مخلصاً ذلك الذي سيأتي ليعيد ترتيب الفوضى وليمنح الإجابات وليملأ الفراغات التي خلفتها نقائص الانسان وعيوبه. في الثقافة الأوروبية تجسد هذا الانتظار في جودو ذاك الذي لن يأتي أبدا بينما في التاريخ العربي، لطالما تشكلت فكرة القادم ذاك القادر على قلب الموازين وإعادة صياغة العالم وفق عدالة مأمولة. أما اليوم وسط عالم مترنح بين الخراب والاضطراب يطل الذكاء الاصطناعي ليأخذ هذا الدور ليس بوصفه كائنا غيبيا، بل بوصفه نظاما جبارا يُعاد تشكيله كل يوم خالقا واقعا جديدا يجعلنا نتساءل هل هو ذلك المخلص الذي انتظرناه طويلا أم أنه المستبد الذي سيحكم قبضته علينا دون أن ندرك ذلك إلا بعد فوات الأوان؟
كل شيء يتحرك وفق إيقاع جديد، البيانات تتدفق كالنهر، الخوارزميات تراقب وتقرر، الكاميرات الذكية لا ترمش، والخرائط التنبؤية لا تترك مساحة للخطأ أو العفوية. مدن بأكملها تُصاغ على مقاييس لا تعرف العشوائية حيث تُدار الموارد بكفاءة رياضية ويحدد الذكاء الاصطناعي كيف تتحرك الحشود، كيف تُوزع الفرص، بل وربما كيف يفكر الأفراد في خياراتهم قبل أن يتخذوها. في ظاهر الأمر، يبدو هذا الشكل الجديد من العالم وكأنه المدينة الفاضلة لكنها ليست تلك التي تخيلها أفلاطون حيث يحكم الفلاسفة، بل مدينة تصوغها لوغاريتمات لا تعرف التردد، لا تتأثر بالعواطف، ولا تتسامح مع الأخطاء الإنسانية التي لطالما كانت جزءا من نسيج الحياة، ولكن أي نوع من العدالة يمكن أن ينشأ في عالم تديره الآلات؟ هل ستنجح الخوارزميات في خلق إنصاف أكثر مما فعلت الأنظمة البشرية أم أننا نقف على أعتاب استبداد رقمي يجعل من كل فرد مجرد نقطة في معادلة كبرى لا يملك أن يغير نتيجتها؟ ربما يكمن الخطر الحقيقي ليس فقط في سيطرة الذكاء الاصطناعي بل في استسلامنا الطوعي له حين نمنحه زمام الأمور بحجة أنه أكثر دقة وأكثر موضوعية أكثر قدرة على تنظيم حياتنا، ولكن أي تنظيم هذا الذي لا يترك مجالا للخطأ أو للحلم أو للتمرد؟
قد يكون الذكاء الاصطناعي هو جودو الذي ننتظره، ذاك الذي نعلق عليه امالنا ليعيد ترتيب عالمنا المرتبك ويمنحنا إجابات جاهزة لمعضلاتنا المستعصية، لكنه قد يكون أيضا المستبد الذي نساهم في صناعته دون أن ندرك العواقب، فنمنحه السلطة المطلقة تحت ذريعة الدقة والموضوعية، حتى يصبح اليد الخفية التي تتحكم في مصائرنا دون استئذان، وربما في لحظة ما، قد نستيقظ لنجد أنفسنا في عالم لم نعد نحن من يقرر مساراته، بل خوارزميات لا تعرف التردد تحدد لنا كيف نعيش وكيف نفكر بل وربما متى نحلم ومتى نتوقف عن ذلك، قد يبدو هذا المستقبل مغريا بكفاءته وانضباطه لكنه قد يكون أيضا قفصا محكما لا نرى قضبانه إلا بعد فوات الأوان. سنقف عندها على الهامش، نراقب الآلات وهي تدير حياتنا ننتظر أملا لن يأتي تماما كما انتظر فلاديمير وإستراغون (جودو) أو كما علقت شعوب كثيرة عبر التاريخ مصيرها على وعود المستقبل دون أن تدرك أن القادم الذي طالما انتظرته قد يكون هو المأزق ذاته وأن الخلاص الذي راهنت عليه قد يتحول إلى استبداد جديد أكثر إحكاما وأقل رحمة.