الموسيقى أم النص في العرض المسرحي وفق منظور هاينز جوبلز
قدْ تتحد مسألة النقد والموسيقى في مفهوم الدراما الموسيقية، الذي يتوسع إلى ما هو أبعد من دلالاتهِ التقليدية، خلال البحث عن إمكانيات المسرح الموسيقي المعاصر، حيثُ تتعمق وراء المفاهيم والأشكال الغامضة في ممارسات ما بعد الحداثة.
(إن ما قدمهُ برتولت برشت يعدُ انتشاراً يتجاوز بكثير ما يسمى بالجمالية المسرحية، ويتجاوز بكثير ما يسمى بالجوهر المسرحي، على اعتباره أداة تفجير سياسية وفنية على حد سواء.)
هاينر جوبلز
Bertolt Brecht
قد يكون للدور الكبير للاستراتيجيات الموسيقية الدرامية الحقيقية في النضال ضد القوى المؤسساتية للمسرح، من حيث إثبات الموسيقى كركنٍ أساس يتخلل العرض المسرحي، أدواراً لا يمكن إغفالها على صعيد العرض المسرحي الحديث، الذي يمزجُ بين تقنيات السرد وتأثيرات الموسيقى داخل العرض المسرحي. وسأحاولُ هنا التركيزُ على الدراسة المعمقة التي قدمها (توري فاكن ليد) متعددة التخصصات في محاولة طموحة طال انتظارها للدفاع أو لجلب الانتباه إلى معضلات (مساحة المسرح)، التي يهيمن عليها عادةً النص ويدحض عملية التمثيل الغنائي. تلك العروض التي يهيمن عليها جانب واحد في الغالب بين المسرح والموسيقى. يأتي ذلك جلياً من منظور يُعرّف الفنون كإمكانية حل للمشاكل من داخل العملية المسرحية، ولأن الباحث (توري فاكن ليد) هو موسيقي ومخرج أيضاً.، فإنه يرد على (علامة المساواة الواسعة الانتشار بين النص، والمسرح، والدراماتورجيا والسرد الجيد)، ويحاول أن يزج المسرح في الموسيقى، مثلما يزج الموسيقى في المسرح.
إن البحث عن انتشار أو انحسار الدور الموسيقي على خشبة المسرح، قد يتطلب وعياً ناضجاً في مجمل العملية المسرحية، وقد تناول هذا الجانب بإسهابٍ ووعيٍ كبير الموسيقي، والمخرج، والباحث المسرحي الكبير (هاينر جوبلز)، وهو يتضمن اختراقات معرفية جديدة، وتأصيل لمفهوم الموسيقى المسرحية في هذا المجال. إن ما بدأه برشت منذ عقود عديدة، والذي هُدِد منذ فترة طويلة بالتآكل والانحسار في خضم دوامة الأشكال المتعاقبة للمسرح وانعكاساتها النظرية، قدْ يصبح منتشراً ومطلوباً مرة أخرى: باعتباره انطلاقاً، وانتشاراً يتجاوز بكثير ما يسمى بالجمالية، ويتجاوز بكثير ما يسمى بالجوهر المسرحي، على اعتباره أداة تفجير سياسية وفنية على حد سواء. وينطبق هذا دون تحفظ على نظرية برشت وممارسته وعلى المحاولات العديدة لمقاومته موسيقياً وتأليفياً أيضاً.
إذاً ما هو التغريب، وما هي البادرة الاجتماعية؟
قد يتم التشكيك في تأثير التغريب في ضوء ما لم يتم تسويته بعد. فليس من قبيل المصادفة أن تشكل المسرحية التعليمية (المقياس)، (وهي مسرحية لبرتولت برشت، التي تقدم التبريرات الخفية للقتل الثوري. التي تم عرضها لأول مرة في عام 1930)، الذي يلعب عليهِ برتولت برشت وكذلك آيسلر دوراً متساوياً. وفي أحد المحاور يبرز عند برتولت برشت دور تأثير التغريب في أعمالهِ حين يخرجُ (توري فاكن ليد) في المسرحية التعليمية. لقد كان التأثير الكبير للستالينية وأسلافها المباشرين الأثر الأكبر على برتولت برشت وكذلك آيسلر. وعندما يتولى توري فاكن ليد مهمة التدريس، فإنه يفعل ذلك في سياق سياسي وثقافي متغير. وهذا يشير إلى ما هو أبعد من مسرحية (المقياس)، وهي انعكاس منطقة المشكلة، انعكاس بائن لدور المسرح التعليمي (Lehrstück)، كما هو انعكاس للشعر البرشتي، في هذا الجانب والجانب الآخر من المسرح. ومن هنا، لا يصف المؤلف فقط مشاهد مما هو موجود بالفعل، بل يصف أيضاً عروضه المسرحية الخاصة، ومعاييرها، وفوق كل شيء أهدافها وهنا يقول توري فاكن ليد: (مرة أخرى، هناك الكثير لنكتشفه، والكثير لنفكر فيه! إن البحث في هذهِ المنطقة من العملية المسرحية، هو ليس بحثاً سهل القراءة، لأنه يدمج بين المسرح والتنظير اليساري، كما جاء في طروحات كارل ماركس فيما يتعلق بـ (رأس المال). كما أن العلم، أو الفن، ليست طريقاً ريفياً سهل السير عليهِ، بل هو طريق سريع، قد تكون فيهِ مُقاداً في اتجاهات لا يمكنك الرجوعُ منها، بل تكون في كثير من الأحيان طريقاً شائكاً. وينطبق هذا الآن أيضاً على المسرح وعلى صنع الموسيقى فيه. ولكن ربما يكون الجهد المبذول في التعامل معه أحد تلك الملذات، تلك الترفيهيات التي أراد برتولت برشت أن يجعلها صالحة لمسرحه: كما هو الحال في عمله المسرحي الكبير (أورجانون الصغير) الذي قدمه للمسرح في عام 1948.
إن إمكانية المسرح كمساحة للتجارب النقدية تتجاوز توسع المسرح كمساحة للتجربة الموسيقية، أي كمسرح مُصمم ومُنظم موسيقياً. في هذهِ الدراسة تتحد مسألة النقد والموسيقى في مفهوم الدراما الموسيقية، الذي يتوسع هنا إلى ما هو أبعد من دلالاته التقليدية. في بحثه عن إمكانيات المسرح الموسيقي المعاصر، حيثُ تتعمق المفاهيم والأشكال الغامضة في ممارسات ما بعد الحداثة في المسرح.
إن السؤال المركزي حول (ما قدمه برتولت برشت) المستند إلى مسرحية (المقياس) لبرشت و إيسلر يمثل محاولة لإعادة بناء دافع خاص لمسرح اليوم بشكل منتج وفاعل، بل يمكننا القول ومؤثر. ومن خلال انتقاد (الموسيقى المطلقة) عند أدورنو من جهة و(المسرح المطلق) عند ستانيسلافسكي من جهة أخرى، نسعى إلى إيجاد تفسير لتأصيل قوتين جاذبيتين مؤسسيتين.
المصدر:
1- Gegenseitige Verfremdungen Theater als kritischer Erfahrungsraum im Stoffwechsel zwischen Bühne und MusikInternationaler, Verlag der Wissenschaften Frankfurt am Main 2011 Alle Rechte vorbehalten.
أستاذ الأدب الألماني الحديث
كاتب في الدراسات النقدية والمسرحية