الأُمُّ مَدْرَسَةٌ إذا أَعْدَدتَها أعددتْ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ، هذا ما قاله حافظُ إبراهيمُ الشاعر المصري المتفرّد؛ حيث تؤكد المعاني الشعريّة على أن تربية البنت بصورةٍ صحيحةٍ، وإعدادها ؛ لتخوض غمار الحياة، ومتقلّباتها؛ إنها ستصبح أمًّا تمتلك العطاء الذي لا ينْضبُ؛ فتصبح نهْرًا جاريًا لا يتوقف، ولا يُعكّرُ صفوه متقلبات، ومتغيرات الحياة العابرة؛ فالأمُّ تنظر للمستقبل عبر تربية فلَذَات أكْبادها، وتُسْقيهم من جرعات القيم النبيلة، والخُلُق الحميد؛ لتُخرّج أجيالًا أصيلة تحمل في ثنايا الوجدان المحبّة، وتتضافرُ جهودها من أجل إعمار الأوْطان على الدوام.
إن الأُمَّ دون مُواربةٍ مؤسسة تربوية عظيمة تعمل على بناء البنيان، والفكر، وتُرسّخُ في الوجدان كل ما من شأنه أن يُعضّدَ الخُلُقَ القويمَ؛ لتزْدهرَ الحياة بفيض المحبة، وترْتوي بجهود بنّاءة، وتُثْمر بعطاءاتٍ ممتدةٍ؛ فندرك أن بناء البشر غاية لا يقابلها أخرى، وأن خلافة الأرْض تقوم على إنْسانٍ يدرك أدواره، ولديه مقدرةٌ على الانْغماس في المجتمع؛ كي يبني، ويُعمّر ويُضيف، ويقدم ما لديه من فكْرٍ، وطاقةٍ من أجل أن تتحقق الغايات المنْشُودة في شتّى مجالات الحياة.
مدْرَسةُ الْأُمُوُمَةِ بها سحائبُ محمّلة بفيض الحنان، والتضحية من أجل فلذَات الأكْباد؛ فترى أن طاقة الأمُومةِ متجدّدةٌ دون سواها؛ فالخيرُ بين الجنبات لا ينضب، ولا يجِفُّ، ولا يعاني من تعبٍ، أو إنْهاكٍ؛ لكن ما نرْصُده من قوة تحمّلٍ نفسيّةٍ، وبدنيّةٍ تجعل الصدْرَ مُتَّسَعًا؛ لتُسْمَعَ الشَّكْوى، وتقدم النصح دون كللٍ، أو مللٍ؛ فعبر حُضْنِها تزولُ الهُمومُ، وتطْمئنُّ القلوبُ وتستريح النَّفسُ، ويهدأ الوجدان، ويرقُّ؛ ومن ثم يستعيد الأبناء طاقاتهم، وقدراتهم، ويستكملوا مسيرة الحياة بعد أخذ جُرْعة المحبّة، والحنْو من الأم.
في خِضَمّ التربية الأُسَريّة برُمَّتِها تجد أن الرعاية المتكاملة تُقدمُها فيْضُ الحنانِ والعطاء؛ إنها الأُمُّ التي يستقبل منها الأبناءُ انفعالاتها، وتنّهدَاتِها، ويترْجُمونها، ويسْتلْهمون منها الرغبة في الحياة؛ إنها الأُمُّ التي تُقدّمُ مُتلوّنُ المعرفة بيسرٍ، وسُهُولةٍ، وتَعِي احتياجات، ومتطلبات استيعاب أبنائها؛ فترْأفُ بهم، وتُضِيفُ إليها برفق، ولين، ولا تحاول أن تمارس ضغوطًا تُنفّرُ الأبناء؛ إنها الأُمُّ التي تُدّرِبُ الأولادَ على ممارساتٍ قويمةٍ بهدوء، ورويّةٍ؛ فيشعر الابْنُ بالرضا حال سلوكه المُعَزّزُ من الأُمُّ، ويستشعر فقْدَ التعزيز حال اقترافه سُلُوكًا غير قويم؛ ومن ثم يُسارعُ لإصلاحه من أجل أن ينال مُكافأةً من الأُمِّ تكسوها المحبّة، والحنان.
مدْرَسةُ الْأُمُوُمَةِ تُهذّبُ النَّفُوسَ، وتعمل على صَقْل الأذْهان بمتنوع ثقافةٍ نقيّةٍ خاليةٍ من شوائبَ، قد أوْردتها تقنيات الفضاء المُنْفلت، وهنا نضْمَنُ أن تتكون بِنَى معرفيّةً سليمةً، ووجْدانياتٍ راقيةً، مليئةً بالمشاعر الرَّقْرَاقة، تجعل الأبناء مُحبّين لتاريخهم، ومُدْركين أبعاد جُغْرافيتهم، لديهم انتماءٌ إلى أصولهم، وجذورهم، تتنامى في نفوسهم محبّةَ الوطن، وتتعالى تقديراتهم لرموزه؛ حيث إن جُلّ اهتمامهم الحِفاظُ على ما يمتلكون من مُقدّرَاتٍ، بل، والعمل مُضِيئًا تجاه تعظيم تلك المُقدّرَاتٍ بمزيدٍ من الجَهْد، والعمل المُسْتَدامِ.
مدْرَسةُ الْأُمُوُمَةِ مليئةٌ بينابيع الخيرِ التي تُعدُّ الأبناء؛ ليتحملوا المسئولية؛ وليصبحوا قادرين على الإنجاز؛ فتتواصل سُنّةَ الحياة، وتدْشَنُ مزيدًا من الأسر التي تحمل بين جنباتها مسئولية الإِعَمار، والعطاء؛ لتمتلئ الحياة بالخير، وتبْحُرُ السَّفينة نحو مسيرةٍ لا تتوقف إلى أن يشاء الله – تعالى –، وهذا ما نُطْلِقُ عليه تكاملَ التربية؛ حيث رعايةُ جيلٍ لآخر؛ كي يُصْبحَ مؤهلًا للخلافة، ولديه مقوّماتُ الإِعْمارِ من خلال ما يمتلكه من خبراتٍ مُرَبيِّةٍ.
إن مدْرَسةَ الْأُمُوُمَةِ زاخرةٌ بمحتوى ثَريّ يعْلوه العطاءُ، ويكْسوه الحنانُ؛ ومن ثم يبْني ولا يهْدمُ، ويعزّزُ، ولا يحْبِطُ؛ لذا نُهِيبُ بمن لديه أمٌّ أن يكون بارًّا بها؛ فقد قدّمتْ ما يصعب أن يقابله نظيرٌ، وتحمّلتْ ما لا تتحمّلْه الجبالُ، وثابرتْ من أجل تخرّج جيلٍ إلى نور الحياة؛ فعانتْ ولم يشعرْ بها أحدٌ، وأعْطتْ الحنان، وإن كانتْ في أشدّ الاحتياج إليه؛ فكُلُّ عامٍ، وأمُّهَاتُنَا في أحسن حال، نسأل اللهَ – عزوجل- أن يُمتّعَ كل أمٍّ بالصحة، والعافية، والعمر المديد، والعمل المُفيد.
أدعو الله – جل في علاه – أن يتغمّدَ أرواح أمُّهَاتُنَا في جنَباَتِ رحماته، وأن يُسْكِنَهنَّ الفِرْدَوسَ الأعْلى من الجنَّة، وأن يجعلنا دوْمًا بهنَّ واصلين، وبارّين ما حيِينَا، اللهم آمين.. ودي ومحبتي للجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر