استطاعة الأبناء على أن يقدموا تبرير، أو يخرجوا بإستخلاصات، أو يتحصلوا على نتائج، من جملة أحداث يشاهدونها، أو يرصدونها، أو يتابعونها، أو حتى وقائع يعايشونها، هذا كله يقوم على الفهم، ويتقبله المنطق والعقل؛ ومن ثم نزعم بأنهم قادرين على ممارسة مهارة التفسير، وهنا تصبح للمواقف، والتجارب، والأحداث، التي يمر بها الأبناء ذات مغزى ومعنى بالنسبة لهم، بل إن شغفهم نحو معرفة الأسباب وتحديدها، والتي تقف خلف الظاهرة التي يتعرضون لها، يصبح أمرًا مستدامًا.
إن مهارة التفسير تمكن الأبناء من أن يتحققوا، ويتوثقوا من صدق المعلومات، التي تصبح في حوزتهم، وأن يصلوا لأحكام منطقية، تقوم على شواهد، وأدلة، وبراهين، غير مشوبة، بل ويمكنهم أن يوظفوا ذلك في العديد من القضايا، أو المواقف التي يتعرضون لها، وهنا تبدو ملامح القدرة على حل المشكلة، وفق فلسفة التحديد الدقيق لمكونها؛ فلا مجال للخلط، أو الخطأ، أو التسرع، في إصدار حكم، أو تلافي خطوات مهمة؛ حيث يراعي من يمتلك مهارة التفسير الاعتبارات الفرعية المرتبطة بالموضوع، أو القضية، أو المشكلة محور التناول.
إذا ما رغبنا أن نخرج الأبناء من حيز المألوف في تفسير الموقف، أو القضية محل الاهتمام؛ فلابد أن ندفع بهم نحو محاولة التدريب على إجرائية التحليل، في ضوء معايير يتبعونها، وهنا يتعرضون لخبرات جديدة تضاف لرصيدهم، بل ويقبلون التعديل، أو التغيير، إذا ما تطلب الأمر ذلك؛ حيث يزداد مع وقت التدريب، واكتساب الخبرات، المقدرة على الملاحظة؛ فيستطيع الفرد حينئذ أن يرصد أوجه الشبه والاختلاف في مكنون القضية، أو المشكلة محل التناول، مع التزامه بماهية التنظيم والترتيب عند التعامل مع البيانات، أو المعلومات.
وظيفية التفسير تبدو في تحصيل الفرد على معان ومترادفات جديدة، وهنا يمكننا القول بأن الخريطة المفاهيمية لديه في ازدياد مضطرد، كما أن مقدرته على التمييز تصبح في مستوياتها المتقدمة؛ حيث يفند التأويلات غير المنطقية، ويبقي على المنطقية منها، ناهيك عن كونه يتحرى أمرًا غاية في الأهمية؛ ألا وهو البعد عن الذاتية، في إصدار الأحكام حول المشكلة، أو الظاهرة، أو القضية، محل النقاش.
والتساؤل الذي يشغل الأذهان يكمن في: كيف أن نعلم أبنائنا المقدرة على التفسير؟، وهذا يحتاج منا لاستعراض بعض الخطوات، التي من خلالها يمكننا أن ندرب أبنائنا على مهارة التفسير، والبداية تكمن في تعريف الفرد بالهدف مما يقوم به من ممارسات كونها مفيدة له، وتضيف إليه خبرة علمية، أو عملية، أو حياتية، ثم ننطلق إلى لب القضية محل الاهتمام؛ حيث نعرض تفاصيلها الدقيقة، بإحدى وسائل العرض المتاحة، بل ونوضح كافة المعطيات التي تؤخذ في الاعتبار، والخاصة بتلك القضية؛ ومن ثم يعتاد الفرد على مهارة قراءة التفاصيل، وحصر المتغيرات الرئيسة منها والدقيقة.
في بعض الأحيان نحتاج لأن نزيل أوجه الغموض، حول ما قد يرتبط بالقضية محل التناول، من معلومات، أو مفاهيم ذات صلة؛ كي نجنب الفرد أن يصاب بنمط فهم خطأ حيال ذلك، وهذا في مجملة بمثابة تحديد دقيق للقضية، وإزالة كافة أوجه اللبس، التي قد تحيط بمكنونها؛ لذا يدرك الفرد المهمة التي تقع على عاتقه؛ فيبدأ بالحوار مع ذاته، والتفكر فيما عرض عليه من تفاصيل، ويحاول أن يستقرئ ما بين السطور، ويقدم تفسيراته الخاصة في صورتها الأولية.
وهنا ينبغي أن نهتم بعقد حوار معه؛ كي نجعله أن يمارس مهارة التفسير، وفقًا لمعايير، وأدلة، وبراهين، يرتكن إليها، وهذا لا يمنع من أن يستعرض قناعاته في البداية، والتي يكتشف مدى صحتها، أو انحرافها عن المسار الصحيح، بعد مطابقتها بالشواهد، حتى لا نمنع، أو نحد من تدفق الأفكار الملهمة لديه، أو نضير بعتبة الابتكار، ورغم ذلك يفيدنا النقاش معه في أننا نتأكد من صحة الممارسات الإجرائية لأداء مهارة التفسير.
وعندما يقدم الفرد تفسيراته في صورتها النهائية، نقوم بتعزيزه، بما يناسب طبيعة الموقف، ثم نتابع مسار تدريبه بقضية أخرى مشابهة للقضية السابقة، ونطلب منه أن يؤدي مهمة التفسير بالصورة سالفة الذكر، وهذا كي نطمئن أنه اتقن الخطوات الإجرائية لأداء مهارة التفسير، وبعد الانتهاء من تلك القضية، نقدم له التعزيز الذي يتبعه تقديم قضية ثالثة؛ لكنها مختلفة تمامًا في تفاصيلها ومضمونها، عن القضيتين السابقتين؛ حيث نصل إلى قناعة وصول الفرد المتدرب لمستوى الإتقان في أداء مهارة التفسير.
ولا ضير من أن يقع المتدرب في خطأ، أثناء أداء مهارة التفسير؛ فحينئذ نقدم له التغذية الراجعة، أو ما نسميها العلاج؛ لتصويب الخطأ؛ ومن ثم يتوجب علينا أن نضعه في مزيد من المواقف الجديدة، التي تتضمن قضايا، وأحداث، لم يتعرض لها من قبل؛ كي يواصل التدريب على مهارة التفسير، ولابد من أن نتيح له الفرصة للتقييم الذاتي، وتقييم أقرانه؛ حيث إن هذا الأمر يجعله يحسن ويطور من أدائه على الدوام.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر