اختصّ الله تعالي ﷻ القرآن الكريم؛ ليكون نورًا يهدي البشرية، ومنهجًا متكاملًا لبناء الإنسان وإعمار الأرض وتنمية المجتمعات، فكان نزوله نقطة تحول فارقة في مسيرة الوعي الإنساني، إذ أعاد صياغة المفاهيم والتصورات، ورسّخ أسس العدل والرحمة والتكافل، داعيًا إلى إعادة النظر في القيم والمبادئ التي يقوم عليها المجتمع، ومنذ لحظة نزوله أضحي البناء والإعمار ركيزتين أساسيتين من ركائز الإيمان، لا ينفصلان عن عبادة الله، بل هما امتدادٌ لها، إذ لا تكتمل رسالة الإنسان في الأرض إلا بالإعمار والعمل على نهضتها، وتحقيق التوازن بين الروح والمادة، وبين الفرد والمجتمع، فصار الإنسان في المنظومة القرآنية محور التنمية وعقلها المدبر، لأنه الوسيلة والغاية لأي نهضة حضارية حقيقية.
ونؤكد أن بناء الأوطان لا يتحقق إلا ببناء الإنسان، فهو حجر الأساس لبناء الحضارات وقلب التنمية النابض بالحياة، وانطلاقًا من هذه الحقيقة الراسخة، جعلت الدولة المصرية الاستثمار في الثروة البشرية نهجًا أساسيًا واستراتيجية مستدامة، تسعى من خلالها إلى إعداد جيل واعٍ، قادر على مواجهة تحديات العصر، ومؤهل بقوة للمساهمة في مسيرة البناء والتنمية، ولم يكن هذا التوجه مجرد شعار يُرفع، بل هو رؤية عميقة تستند إلى إدراك واعٍ بأن التنمية الحقيقية تبدأ من بناء العقول وإثراء الفكر وترسيخ منظومة القيم الأخلاقية، وتعميق روح الانتماء والولاء للوطن، ليصبح الإنسان نفسه أداة النهضة وركيزتها، مسلحًا بالعلم والمعرفة، ومدفوعًا بإرادة لا تلين، لبناء مستقبل أكثر إشراقًا لأمته.
وقد خطت مصر خطوات راسخة واضعةً بناء الإنسان في صدارة أولوياتها، فكان تطوير منظومة التعليم إحدى الدعائم الكبرى لهذه الرؤية، حيث سعت الدولة إلى تحقيق التوازن بين الجوانب العلمية والتكنولوجية من جهة، وبين بناء الشخصية الوطنية والإنسانية من جهة أخرى؛ لتنشئة أجيال قادرة على الابتكار والتفاعل مع معطيات العصر، دون أن تفقد هويتها أو تنفصل عن قيمها الأصيلة، وبالإضافة إلي ذلك لم يكن الارتقاء بالخدمات الصحية والاجتماعية، ودعم شبكات الحماية الاجتماعية والفئات الأكثر احتياجًا مجرد التزام حكومي، بل كان نهجًا يعكس رؤية الدولة لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، تُتيح للجميع فرصًا متكافئة للحياة الكريمة، من خلال مسيرة تسير بثقة نحو مستقبل يُصاغ بالعلم والعمل، وتُقوي دعائمه العدالة والتكافل؛ ليبقى الإنسان في كل مراحل التنمية، هو الغاية والوسيلة.
وكما جاءت الأديان بمنهج البناء والإعمار، جاءت أيضًا بمنهج متكامل لترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية، فالأمم تنهض بمبادئها وتزدهر بأخلاق أبنائها ومن هذا المنطلق، كان الحفاظ على هويتنا وتنمية القيم الأخلاقية ليس مجرد مسؤولية فردية، بل هو واجب مشترك، يتطلب تكاتف جميع مؤسسات بناء الوعي، بدءًا من الأسرة التي تُعد الحاضن الأول للفرد، حيث تتشكل القيم والمبادئ، مرورًا بالمدرسة التي تُكمل عملية التنشئة وترسخ مفاهيم الانضباط والمسؤولية، ووصولًا إلى المسجد والكنيسة، حيث يُستقى الهدى الروحي والتوجيه القيمي، ثم وسائل الإعلام التي تشكل الوعي الجمعي، وتغرس المفاهيم الراسخة التي تبني مجتمعًا قويًا، متماسكًا، قادرًا على مواجهة التحديات بثبات ورشد.
فإننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بحاجة ماسّة إلى خطاب ديني وتعليمي وإعلامي واعٍ ومتزن، يعيد للأمة بريقها، ويضعها على طريق النهضة الحقيقية، عبر ترسيخ القيم الأصيلة، وتنمية الوعي وبناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة التحديات بثقة وثبات، مستندًا إلى منظومة فكرية قائمة على الاعتدال والتوازن، وأن ينبع الخطاب الديني من الفهم العميق لروح الإسلام، فيقدمه في صورته النقية السمحة والمعتدلة، التي تقوم على الرحمة والعدل والتسامح، بعيدًا عن التشدد والغلو والتطرف، أو التهاون والانحلال، فكما كان الإسلام على مدار التاريخ محركًا للحضارات، يجب أن يعود اليوم ليكون قوة دافعة نحو التقدم، بتقديمه خطابًا يُفعِّل القيم الأخلاقية، ويدعم روح العمل والاجتهاد، ويرسّخ ثقافة التعايش المشترك في ظل احترام الهويات والثقافات المختلفة.
ويجب ألا تقتصر المناهج التعليمية على تقديم المعرفة فحسب، بل يجب أن تكون رافدًا أساسيًا في بناء شخصية مستقلة، واعية، قادرة على التحليل والتفكير النقدي، والانفتاح على العالم بروح مبدعة متطورة، تأخذ ما يتوافق مع ثقافتنا وهويتنا، وتطرح نماذج معرفية ترسّخ قيم العمل والاجتهاد والابتكار، فينشأ جيل قادر على قيادة مسيرة التنمية بفكر ناضج وأفق واسع، ونحن في وقت أصبحت فيه الكلمة المسموعة والمرئية أشد تأثيرًا من أي وقت مضى، يأتي دور الإعلام، باعتباره الأداة الأقوى في تشكيل الوعي فيجب أن يكون منارة للثقافة؛ لذا يجب أن يرتقي الإعلام برسالته، فيقدم محتوى هادفًا، يبني العقول، ويرسّخ الصورة الإيجابية عن الوطن والمجتمع، ويؤسس لثقافة الحوار والتسامح، ويواجه الفكر الهدام بخطاب عقلاني، قائم على الحقائق، نابذٍ لكل أشكال التشويه والتضليل.
وتُمثل هذه الركائز الثلاث الدين والتعليم والإعلام أعمدةً رئيسة للنهضة الفكرية والحضارية، فبها تُبنى الأمم، ومن خلالها يُصاغ وعي الأجيال، ولا تقع مسؤولية النهوض بها على عاتق جهة واحدة، بل هي واجب مشترك يستدعي تضافر الجهود بين المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية، لترسيخ منظومة فكرية متماسكة، تحافظ على الهوية، وتدفع المجتمع نحو مستقبل أكثر تقدمًا.
وجدير بالذكر أن النصر الحقيقي لا يبدأ من ميادين المعارك، بل من أعماق النفس البشرية، فمن استطاع أن ينتصر على ضعفه ويزكي روحه ويصقل إرادته، فقد وضع قدمه على أول طريق التمكين، وقد قضت سنن الله في الكون أن التغيير لا يُمنح لمن ينتظره انتظارًا سلبيًا، بل لمن يسعى إليه بإرادة صادقة، وعزيمة لا تلين، مصداقًا لقوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (سورة الرعد 11″؛ فلنكن على قدر هذه المسؤولية العظيمة، ولنُشعل في نفوسنا قبس الطموح والعمل، ونمضي في مسيرة البناء بثباتٍ وإيمانٍ راسخ، مجتهدين في إعمار أوطاننا، ومتسلحين بالعلم والعمل، ومتكاتفين بوحدةٍ لا تعرف الضعف، ولا ننحني أمام التحديات فالأمم العظيمة لا تنهض بالأماني، بل بهمم أبنائها الذين يدركون أن النصر لا يُهدى، بل يُنتزع بالجد والاجتهاد، وأن المجد لا يُبنى إلا بسواعد مخلصة، وقلوبٍ عامرة بالإيمان، ونفوسٍ لا تعرف المستحيل.
اللهم احفظ مصر وأهلها، وبارك في أرضها الطيبة، وأدم علينا نعمة الأمن والاستقرار.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر