من الحقائق التي كشفت عنها حرب الإبادة في غزة تدهور مفهوم الأمة الواحدة لدى الشعوب العربية والإسلامية، فلم تعد معظم هذه الشعوب تشعر برابطة الأمة العربية أو الأمة الإسلامية الجامعة، ونجح الغزو الفكري الغربي على مدى أكثر من نصف قرن في أن يجعل الانتماء عندها أحاديا للدولة الوطنية، ويقنعها بأن هذا الانتماء للدولة الوطنية يصادم ويناقض مفهوم الانتماء للأمة، ولم يكتف بهذا التفكيك، بل خلق لدى أبنائها ـ خصوصا المترفين منهم ـ نفورا عاما من روابط الأخوة، وأقام حدودا وسدودا وحواجز نفسية ومادية تفصل بينهم، وأعادهم شعوبا وقبائل متناحرة، يتطاول بعضهم على بعض، بعد أن كانوا شعبا واحدا.
لقد انتهى زمن الحلم الأكبر، زمن المد القومي العربي “وطني حبيبي الوطن الأكبر”، وانتهى من قبله زمن الأمة الإسلامية، أمة التوحيد التي هي “كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر”، وتقطعت أواصر الدين والتاريخ واللغة، وتحققت الفرقة التي خطط لها الغزو الفكري منذ زمن طويل.
ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على الإحساس العام لدى الشعوب العربية والإسلامية إزاء ما يحدث لإخوة الدين والدم في غزة، فهناك من يؤثر السلامة وينأى بنفسه عن الصراع كأن القضية لا تخصه، وهناك من يجاهر بالتململ من تكاليف القضية الفلسطينية ويجتهد في التنصل منها، وهناك من يتجاوز الصمت والخذلان وينخرط في مهاجمة المقاومة، وكلها أوضاع كانت محرمة على العرب والمسلمين قبل أربعة عقود، ثم مؤخرا ظهر تيار يناصر إسرائيل علنا ويتحدث باسمها في البلدان التي كانت فلسطين قضيتها الأولى.
ومع هذا التحول التاريخي انتقل الصراع مع إسرائيل من صراع (عربي/ إسرائيلي) إلى صراع (فلسطيني / إسرائيلي)، وبعد أن كان العرب يحاربون مع إخوانهم الفلسطينيين في 1948 صاروا يتفرجون عليهم وهم يذبحون وتدمر عليهم بيوتهم، ويتفاخرون بأنهم متمسكون بخيار السلام، رغم أن القضية الفلسطينية لم تتقدم خطوة واحدة نحو الحل منذ أن أعلن العرب تبنيهم لاستراتيجية السلام، بل ازدادت تعقيدا، وازدادت عزلة الشعب الفلسطيني، وترك وحده يخوض في دمائه، بينما يزحف الخطر الإسرائيلي على الدول المجاورة واحدة تلو الأخرى.
وإذا كان العرب والمسلمون قد أسقطوا مفهوم الأمة فإن العدو لم يسقط هذه الحقيقة، وظل واعيا بها، ويعمل على تدميرها وتقطيع وشائجها القومية والدينية ما وجد إلى ذلك سبيلا، لأنه يعلم جيدا أن هذه الأمة لو اجتمعت وانتفضت فسوف تكتب نهايته.
ومنذ أن بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين أوائل القرن العشرين اجتهد الغرب في حمل العرب على تبني الصبغة السياسية للصراع مع اليهود وإنكار الصبغة الدينية، وشارك المثقفون المتغربون والمتأدلجون في ترويج هذه الصبغة السياسية بشكل واسع للتهرب من الحضور الديني في حياة شعوبهم اتساقا مع الرؤية العلمانية التي أشربوها، وفي المقابل عمل اليهود بكل جد على فرض الصبغة الدينية للصراع بين قومهم، واستطاعت النخبة الواعية فيهم إحياء المفاهيم الدينية التوراتية تجاه فلسطين والقدس والعرب والمسلمين، ولسنوات طويلة تمسكنا نحن بالبعد السياسي للصراع واستبعدنا البعد الديني الأصيل، وأصبحت مواقفنا قابلة للتغيير والتبديل طبقا للظروف السياسية المتغيرة، وجعلنا الدين خاضعا للسياسة، بينما بقي اليهود ثابتين في مواقفهم يوجهون السياسة فيما يخدم البعد الديني.
وحتى عندما قلنا إنه صراع وجود لا صراع حدود، لم نترجم الشعار إلى أفعال، بل أهملناه وتركناه معلقا بلا معنى، بينما كان المشروع الصهيوني يخترق عمقنا الإستراتيجي أفقيا ورأسيا، فيستولي على مزيد من الأرض ويعمل على إعادة تشكيل وعينا، عقليا ونفسيا ووجدانيا، لنقبل بوجوده وهيمنته، وسرق شعارنا ليطبقه عمليا، واليوم يتحدث نتنياهو عن (الحرب الوجودية) التي يخوضها.
وفي مرحلة الحرب الباردة بين الشرق والغرب وقعنا في فخ أيديولوجي مهين، فربطنا الصراع مع اليهود بالحرب ضد الإمبريالية، وقطعنا جذوره الضاربة في عمق التاريخ منذ بدء الرسالة المحمدية وقبل نشأة الرأسمالية والإمبريالية وأمريكا وأوروبا، كأننا نسينا التاريخ كله، وكأن صراعنا مع اليهود لم يبدأ إلا بعد نشأة إسرائيل، وكأن القرآن الكريم لم يفصل لنا أسباب هذا الصراع وطبيعته، وفضلنا أن نجعله صراعا بين إسرائيل والعرب فقط، وقدمناه للعالم على أنه صراع عرقي بين قوميتين؛ العربية واليهودية، وأفرغناه من مضمونه الديني، ونزعناه من عمقه الإسلامي.
لكن إسرائيل لم تغفل عن أن حقيقة الصراع أنه صراع مع الأمة العربية والإسلامية، ومع الإسلام نفسه، لذلك لن تكتفي بفلسطين، بل ترسل آلتها العسكرية إلى كل أرض عربية أو إسلامية تستطيع أن تصل إليها، وما حققته حتى اليوم من اختراق في العالم العربي دليل منطقي على اتساع المشروع الصهيوني باتساع الأرض العربية الإسلامية، فلا يوجد في التاريخ احتلال وضع مشروعا ثقافيا ودينيا لإعادة تأهيل أصحاب البلد المحتل والبلدان التي تتحدث لغة ذلك البلد وتدين بدينه وتؤمن بنفس الكتاب الذي يؤمن به، وذلك لأن الاحتلال الإسرائيلي ليس احتلالا عاديا، بل احتلال أرض ودين وثقافة ولغة، يريد أن يتمدد ليصل إلى كل بقعة وصل إليها هذا الدين وهذه الثقافة وتلك اللغة، وهو اليوم يحارب على 7 جبهات، ويحتل أراض في سوريا ولبنان، ويتحرش بمصر والأردن والسعودية وتركيا، ويناور لضرب المنشآت النووية الإيرانية.
ولا يعتمد المشروع الصهيوني على السلاح وحده، وإنما يسبق السلاح ويرافقه مخطط متعدد الجوانب لإفساد البلاد والعباد، يبدأ بالإعلام وبرامج نشر الإلحاد والشذوذ والتفاهة وضرب الثوابت الدينية والوطنية وتغيير المناهج الدراسية، وينتهي بالتطبيع وفرض الديانة الإبراهيمية الملفقة لتهميش الإسلام وتطويعه، والاقتراب به من اليهودية.
وبعد أن كنا نتحدث عن تهويد القدس وفلسطين أصبحنا نتحدث عن تهويد الإسلام، ليس في فلسطين وحدها، وإنما على امتداد خريطة العالم الإسلامي كله.