قبل يومين احتفي العالم في مشارق الأرض ومغاربها باليوم العالمي للإبداع والابتكار في إشارة مهمة لأهمية عنصر الإبداع كأحد محددات صناعة النهضة الفائقة وتطوير وتحسين جودة الحياة في الحاضر والمستقبل.
ووفقا لمتطلبات الواقع في تقديري أن مساري التعليم الإبداعي والتعليم التقني الآخذ بمجامع التطور التكنولوجي وطفرات العقول الصناعية الموازية هما جناحا المعادلة لتعزيز نواتج التعلم، ومن ثم تحقيق أهداف التنمية البشرية المستدامة.
ولا ريب أنّ تقدم الأمم والحضارات يستند في المقام الأول إلي تطوير تقنيات مستدامة، بخاصة تقنيات التحول الرقمي واستخدامات الذكاء الاصطناعي في الحفاظ على موارد الأرض، وهو أمر يسهم في دعم الاقتصادات المحلية والعالمية، ويبني صناعات مستدامة وبنية تحتية تواكب تحديات العمل التنموي والمناخي.
لذا يأتي باليوم العالمي للإبداع والابتكار في 21 إبريل من كل عام؛ تذكيرا بقوة الأفكار الجديدة في بناء مستقبل أكثر ازدهارا، وهذا هو جوهر التنمية المستدامة وفقا للأهداف الإنمائية التي أعلنتها الأمم المتحدة أوائل القرن الواحد والعشرين، ومن بينها (الهدف 9)، والذي يتحدث عن الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية.
ويدعم هذا الإتجاه التغير الكبير في سياسات واستراتيجيات التنمية المستدامة، بما تتطلبها من تأهيل وإعداد الموارد البشرية لمواكبة إحتياجات سوق العمل والذي يعتمد في المقام الأول على المهارات التدريبية والجدارات الوظيفية، دون النظر لمجرد الحصول علي الشهادات العلمية في صورتها التقليدية.
وفي هذا السياق المصيري ثار جدل واسع خلال السنوات الأخيرة حول مدي قدرة أنظمة التعليم بصورتها التقليدية في مختلف بلدان العالم علي صناعة جيل مبدع ملم بكافة متطلبات التنمية البشرية المتواصلة.
ووفقا لذلك كشفت دراسة مهمة أجرتها وكالة “ناسا” الأمريكية عن كيفية إسهام التعليم التقليدي في إطفاء شرارة الإبداع بإشراف الباحث”جورج لاند”
وسلّطت النتائج الضوء على تراجعٍ مُقلق في العبقرية الإبداعية من الطفولة إلى البلوغ. وأكدت الدراسة أن النظام التعليمي التقليدي كان سببا مُحتملًا لذلك، مما أثار نقاشاتٍ حول تعزيز التفكير المُتباعد لإحياء الإبداع الفطري.
وقد كانت “ناسا” حريصة على توظيف العقول المبدعة، ولتحقيق ذلك، سعت إلى فهم طبيعة العبقرية الإبداعية.
وقد ركزت الدراسة على الأطفال الصغار، الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و5 سنوات، في رحلة لاكتشاف الإبداع. وخضعت مجموعة من 1600 طفل مسجلين في برنامج “هيد ستارت” لاختبار إبداعي صُم في البداية لمجندي ناسا ..وجاءت النتائج مذهلة؛ فقد وُصف 98% من هؤلاء الصغار بأنهم عباقرة مبدعون، ومع ذلك، كشفت متابعة هؤلاء عن اتجاه مثير للقلق حيث انخفضت نسبة العبقرية إلى 30% في سن العاشرة، ثم إلى 12% في سن الخامسة عشرة. وبالمقارنة مع البالغين، لم يحافظ على هذا المستوى من العبقرية الإبداعية سوى 2% فقط.
ولم يتوقف “جورج لاند” عند هذا الحد، بل صعد إلى منصة (TEDxTucson) ليشارك هذه النتائج. وحدد نوعين من التفكير: ” التفكير المتباعد”، المرتبط بالخيال والأفكار الجديدة، و” الفكر المتقارب”، المرتبط بالحكم والتقييم.
كما أشار “لاند” إلى وضع مقلق في المجال التعليمي؛ إذ يُجبر كلا النوعين من التفكير على التعايش، مما يؤدي إلى صراع معرفي يقمع الإبداع. وقد توصل إلي أن هذا النموذج التعليمي، الذي يشجع على التفكير المتباعد والمتقارب في آن واحد، كان السبب الرئيسي في تراجع العبقرية الإبداعية لدى الأطفال خلال مراحلهم الدراسية.
وتوصلت الدراسة إلي أن النظام التعليمي التقليدي يخنق الإبداع الفطري لدى الأطفال، ويُحوّلهم إلى بالغين أقل إبداعا.
وقد كشف هذا الاستكشاف المطول الذي أجراه “لاند” وفريقه عن حاجة مُلحة، لإصلاح تعليمي شامل لرعاية الإبداع المتأصل في الأفراد بدلًا من قمعه.
وألمح ” لاند” إلى منجم ذهبي محتمل للإبداع، ينتظر استغلاله، إذا ما حُوّلت النماذج التعليمية لصالح التفكير المُتباعد.
ولا يزال عمله خطابا أساسيا، يحث على إحياء العبقرية الإبداعية في الداخل من خلال إعادة النظر في الهياكل التعليمية القائمة ورعاية العبقرية الإبداعية، وإعادة اكتشاف آفاق الخيال اللامحدودة التي كان من السهل اجتيازها في سن الخامسة.
وفي إطار تنامي الإرادة المجتمعية نحو صناعة جيل أكثر إبداعا يمتلك فرصا للتوظيف والانطلاق وتحمل المسؤولية
ظهر ما يعرف بـ “التعليم المستمر عن بعد”، كما عرضت بعض الدول تجارب لنمط “التعليم المنزلي”.
ووفقا لقناعة هؤلاء فليس المهم هنا ما يتم تدريسه، بل المهم ما يتم تعلُّمه، إذا كان أطفالنا يجدون صعوبة في تلقي المادة بالطريقة التقليدية، فلنغير هذه الطريقة بالكلية ولتلائم طرق التدريس طرق التلقي، لا أن نفرض عليهم طريقة تدريس معينة، بل نحاول تعديل طرق تلقيهم.
وبسبب هذه الميزة في “التعليم المنزلي”، نجد الكثير من المتعلمين منزلياً لا يوجد عندهم مفهوم ” أنت في أي صف؟” إذا سألتهم هذا السؤال ستجد الجواب بحسب مستوى الطفل في المواضيع التي يدرسها لا بحسب فئته العمرية.
وقد يكون هناك تخوّف أو شكوك أو في كثير من الأحيان، استهزاء بهذا النمط النوعي في التعليم، ولكن أسر المتعلمين منزلياً دائماً ينظرون إلى الأشياء بشكل عملي في محاولة إيجاد حلول تعالج مشاكلهم بطرق مبتكرة وجرئية، و الخروج عن قوالب المألوف والمتعارف إليه.
ولا يخفى على أحدٍ منا كم هي مرعبة فكرة عدم ذهاب فلذات أكبادنا إلى المدارس للتحصيل العلمي، ولكن المشكلة تكمن في التعليم التقليدي ذاته ونظام المدارس “منتهي الصلاحية”.
وهناك عدة أسباب تدفع أولياء الأمور إلى سحب أبنائهم من المدارس النظامية واللجوء إلى التعليم المنزلي كنهج جريء في تربية وتعليم أبنائهم من بينها:
ـ غلاء التعليم الخاص
ـ فرض منهج موحد على جميع المتعلمين
ـ حرية ابتكار وتطوير وتحرير المناهج لدى المتعلمين منزلياً
ـ بلوغ الآباء والأمهات ذروة النضوج العلمي والثقافي.
ـ رداءة التعليم العام وهي النقطة الأهم، انطلاقا من قناعة مؤيدي ‘التعليم المنزلي” فنظام المدارس التقليدي (المدارس العامة على وجه الخصوص) لم يعد يلبي حاجات الأجيال الجديدة، ولم يعد يواكب آخر تطورات البحث العلمي، وإن كان هناك بعض التطوير أو التجديد في نظام المدارس، لكنه يستغرق وقتا طويلا لتنفيذه.
وبعيدا عن مدي صواب فكرة التعليم المنزلي بعيدا عن المؤسسات التعليمية النظامية، تظل فكرة البحث عن الثمار المرجوه والحصول علي متعلم مبدع ونافع ومفيد هي الفيصل..
ويبدو أن البحث عن فكرة الشرارة الإبداعية أمسي من ضرورات العصر الحتمية في سبيل حياة أفضل وتعليم أكثر فعالية ..
فالشرارة الإبداعية هي لحظة الإلهام أو الفكر الذي يأتي فجأة ويغير طريقة التفكير أو العمل. وتأتي الشرارة الإبداعية نتيجة للعديد من العوامل، مثل:
ـ التجارب الشخصية، القراءة والإطلاع الدائم، برامج تنمية المواهب ورعاية المبدعين عبر أنظمة التعلم بشقيها النظامي أو المفتوح، التفاعل مع الآخرين، والتأمل والتفكير.
ولتعزيز الشرارة الإبداعية يري المتخصصون ضرورة الانفتاح على التجارب الجديدة، والاستماع إلى الآخرين وتوظيف نتائجها، وغرس ثقافة
التفكير خارج الصندوق، الاسترخاء والتأمل والتفكير المنطقي والتحليل.
وبالنظر لمنظومة التعليم في أرض الكنانة تبقي تساؤلات مهمة.. هل اتخذنا ما يكفي لاستيعاب تلك التوجهات المعاصرة وأنماط التعليم الفاعلة في مختلف المراحل التعليمية ؟!.
وهل نحن مستعدون لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل وصناعة أجيال مبدعة تعتمد في المقام الأول على تنمية مهارات التحليل والتفكير المنطقي والناقد والإبداعي في مختلف مجالات العلوم التجريبية والاجتماعية، بعيدا عن فكرة الحفظ والتلقين وعن القوالب الجامدة ؟!.
وهل ما قامت به الدولة عبر وزراتيها وأجهزتها المعنية من إجراءات واستراتيجيات تعليمية كفيل بتطوير نواتج العملية التعليمية كما يطمح لها المصريون؟!. وهل تغيير أنظمة الامتحانات والتقويم كفيل بتحقيق تلك المعادلات الصعبة؟!.
وهل لدينا رؤي متكاملة لتطوير التعليم الجامعي باعتباره الحلقة النهائية لتحقيق التكامل بين مختلف المراحل وإيجاد الحلقات الوسيطة بين النظرية والتطبيق؟!.
أتصور أن هناك محاولات جادة لكنها ما تزال مجرد خطوات في طريق طويل، فقد قطعت وزارة التعليم شوطا نحو تفهم احتياجات المستقبل، وبدأت خططا للتطوير والتحديث بداية من المراحل السنية التأسيسية الأولي، مع بعض التصورات المطروحة للحوار المجتمعى لتطوير الثانوية العامة عبر نظام ” البكالوريا”، لكن التجربة يجب أن تخضع للتقييم المستمر ونصب أعيننا الأهداف والمبتغيات الإستراتيجية التي تنطلق من المعايير والقواعد الأممية لكل ماهو جديد ومبدع.
ومن اعتاد التحرك نحو
الأمام، وأدرك أهمية الحصاد وقطف الثمار فلن يفكر يوما في طريق العودة إلي الخلف.. والقادم أفضل بإذن الله.