تواجه الصحافة المصرية، كغيرها من الصحافات العالمية، تحديات وجودية كبيرة تهدد استمراريتها ودورها في المجتمع. من بين هذه التحديات تراجع مبيعات الصحف المطبوعة، وانخفاض إيرادات الإعلانات، وزيادة استهلاك الأخبار الرقمية، بالإضافة إلى تراجع ثقة الجمهور في وسائل الإعلام. أصبحت التقنيات الرقمية جزءًا لا يتجزأ فى كل جانب من جوانب حياتنا اليومية، ما قد يجلب معه فوائد كبيرة، وكذلك مخاطر محتملة، فأصبح زيف وضلال المعلومات الناتج عن أدوات الذكاء الاصطناعى على سبيل المثال الخطر الأهم الذى يهدد البشرية طبقا للمنتدى الاقتصادى العالمى فى المدى القصير
وباتت أخطار الأمن السيبرانى أيضا من أهم المخاطر التى تواجه الدول بصفة عامة، شاملة الأخطار المتعلقة بالهجمات على البنى التحتية الحرجة.
بحسب التقارير، ارتفعت ديون المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة في مصر لتصل إلى مليارات الجنيهات، في حين أن العديد من الكيانات الخاصة على وشك الانهيار بسبب الضغوط المالية الهائلة.
إن الاعتماد الكلى على العالم الرقمى مع الافتقار إلى أطر الحوكمة الكافية يجعل سلبيات التوجه إلى الحالة الرقمية أمرا مزعجا فى بعض الأحيان، كما تثار التساؤلات من حين إلى آخر: أين نحن من الحالة الرقمية؟ وإلى أين سنصل بها؟
وما الإجراءات والأطر التى تقلل من سلبيات التوجه الرقمى وتعظم من فوائده؟ لذلك ظهرت الحاجة إلى النظر إلى الحوكمة الرقمية أو الإلكترونية بالتوازى مع جهود التحول الرقمى الكثيفة بهدف إدارة المخاطر المرتبطة بها والتخفيف من حدتها. يمثل الأمن السيبرانى أحد أهم التهديدات التى تواجهها المؤسسات التى تتبنى التحول الرقمى وهو تهديد تقنى، ومؤسسى، وهيكلى،
ويزداد تواتر التهديدات السيبرانية وتعقيدها وتأثيرها بدرجة تتناسب طرديا مع تطور الحالة الرقمية، ما يشكل مخاطر على البيانات الحساسة للمؤسسات والبنية التحتية الحيوية الحرجة للدول، الأمر الذى يتطلب معه الإلزام بإنشاء أطر قوية للأمن السيبرانى تساعد على تبنى قواعد تساعد فرق الأمن السيبرانى على تخطى تلك التهديدات، ويشمل ذلك خطط الاستجابة للحوادث والإدارة الاستباقية والتنبؤية للأخطار، ووضع هياكل للإدارة القوية، والمراقبة الآنية المستمرة، للحماية من هذه التهديدات، كما توفر الحوكمة الرقمية أيضا أطرا ليس فقط لتخطى تحديات الأمن السيبرانى، وإنما لوضع الأسس والأطر للتفاعل مع العالم الرقمى بحذر دون الانفلات والإضرار بالمؤسسات ودون أيضا كبح جماح الابتكار.
التحدى الآخر هو الفجوة الرقمية، وتعريفها هو عدم المساواة فى الوصول إلى التكنولوجيات الرقمية ما يؤدى إلى تفاقم أوجه عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية القائمة بسببها، ما يؤدى إلى تخلف بعض الفئات عن ركب التنمية الاقتصادية القائمة على التقنية. ويجب أن تعمل الحوكمة الإلكترونية على ضمان الوصول الرقمى الشامل، وتنفيذ برامج محو الأمية الرقمية لسد هذه الفجوة وتعزيز النمو الاقتصادى العادل.
تشكل خصوصية البيانات وحمايتها أيضًا مخاطر كبيرة، حيث يثير جمع وتخزين واستخدام كميات هائلة من البيانات الشخصية مخاوف بشأن الخصوصية وأمن البيانات. وتعد اللوائح والممارسات الشاملة لحماية البيانات التى تضمن الشفافية والمساءلة فى التعامل مع البيانات ضرورة لمعالجة هذه المخاوف ولتقليل التحديات والأزمات التى قد تحدث نتيجة للاستخدام الخاطئ وغير الرشيد للبيانات، ما يجعلها فى خطر الوقوع فى الأيدى الخطأ، وبالتوازى مع ذلك تعد الشفافية والمساءلة الخوارزمية من القضايا الحاسمة فى العصر الرقمى،
حيث يمكن أن يؤدى استخدام الخوارزميات فى عمليات صنع القرار إلى التحيز والتمييز وانعدام الشفافية. ويعد فرض الشفافية الخوارزمية وإنشاء آليات لمراجعة القرارات الخوارزمية وإخضاعها للمساءلة أمرا ضروريا لضمان العدالة وتجنب التحيزات. ويعد كسب ثقة الجمهور ومشاركته أمرا حيويا لنجاح المبادرات الرقمية، حيث يمكن للمخاوف بشأن الخصوصية والأمن والشفافية أن تقوض ثقة الجمهور ومشاركته، لذا يبرز دور الحوكمة الرقمية لأن بناء الثقة من خلال عمليات حوكمة شفافة وخاضعة للمساءلة وقائمة على المشاركة وإشراك المواطنين فى تصميم وتنفيذ الخدمات الرقمية أمر بالغ الأهمية.
إن التقدم التكنولوجى السريع غالبا ما يفوق فى سرعته تطور ونضوج الأطر التنظيمية والقانونية نظرا لصعوبة تحديثها، وارتباط ذلك بالصياغة والموافقة على قوانين ولوائح جامدة ما يؤدى إلى ثغرات وأوجه غموض وفجوة دائما تحدث بين عمل التقنيات وبين القوانين واللوائح المنظمة. ونظرا لأهمية التحديث المستمر للأطر التنظيمية وتكييفها لمواكبة التغيرات التكنولوجية لضمان الحوكمة الرقمية الفعالة، لذا يجب العمل على اتخاذ آليات جديدة تستخدم التقنيات الرقمية لضمان الامتثال، وقد يكون من الأفضل الاتفاق على مبادئ عامة تحكم المنظومة القائمة التى تكون بطبيعتها عامة، وفى صورة مبادئ لا تتغير كثيرا مع بقاء أطر الامتثال التنفيذية مفتوحة للتعديل الديناميكى دون الرجوع للجهات التشريعية، وبواسطة جهات أو فرق عمل تشمل التقنيين جنبا إلى جنب مع القانونيين حتى يتسنى ملاحقة التطورات ومواجهة تحديات الحالة الرقمية بشكل أكثر فاعلية.
كما أن الأطر التنظيمية غالبا ما تركز على التقنيات الحالية بدلا من التقنيات الناشئة، ما يتطلب أدوات تنظيمية أكثر مرونة يمكنها التكيف مع التطورات التكنولوجية الجديدة وتخفيف المخاطر المرتبطة بها بشكل فعال.
ولأن جهود التحول الرقمى عادة ما تكون جهودا يتم تأطيرها فى ظل منظومة كاملة من أصحاب المصلحة، لذا يشكل التنسيق بين أصحاب المصلحة تحديا آخر فى الحوكمة الرقمية. ومن الضرورى إشراك العديد من أصحاب المصلحة، بما فى ذلك الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدنى، والمنظمات الدولية. بغرض تعزيز التعاون بين هذه الجهات الفاعلة لتطوير سياسات واستراتيجيات متماسكة، ومن الممكن خلق شراكات بين القطاعين العام والخاص بحيث تستفيد هذه الشراكات من نقاط القوة فى كلا القطاعين: السلطة التنظيمية الحكومية والابتكار والكفاءة فى القطاع الخاص. ومن الممكن أن تجتذب الشراكات الناجحة بين القطاعين العام والخاص المزيد من استثمارات القطاع الخاص من خلال عرض نماذج قابلة للتطبيق والتعاون.
هذه المعطيات تدعو صانعي السياسات لاتخاذ خطوات جريئة وفعالة لضمان استدامة الصحافة في مصر وإعادة إحياء دورها الحيوي في الخطاب الثقافي والوطني. تكيف الصحافة المصرية مع التطورات التكنولوجية لم يعد اختياراً؛ بل ضرورة حتمية. فالتحول الرقمي في ظل المتغيرات التكنولوجية السريعة غدا أمراً ضاغطاً في ظل انخفاض تداول الصحف المطبوعة بنسبة 30% عالمياً خلال العقد الماضي لصالح المنصات الرقمية.
وتعكس الاتجاهات في مصر ارتفاع نسب استهلاك الأخبار الرقمية 60% خلال السنوات الخمس الماضية. هذه البيانات تتطلب من المؤسسات الصحفية الاستثمار في تطوير منصات رقمية تفاعلية وجاذبة تلبي احتياجات قراء اليوم كأمر بالغ الأهمية للحفاظ على الصلة وجذب قاعدة جمهورية أوسع. كمثال، البودكاست والمحتوى الرقمي هي أدوات جديدة تمثل مستقبل الصحافة والإعلام، ويمكن أن توفر فرص جديدة للمؤسسات الإعلامية للوصول إلى جمهور أوسع وتقديم محتوى أكثر تنوعاً.
استعادة ثقة الجمهور هي التحدي الأكثر صعوبة ولكنه الأكثر أهمية. ثقة الجمهور في وسائل الإعلام الرسمية تراجعت بشكل كبير، حيث يعبر 42% فقط من المصريين حاليًا عن ثقتهم في هذه الوسائل، وهو انخفاض حاد من 70% قبل عقد من الزمن. هذا الانخفاض ليس مجرد ظاهرة محلية، بل هو جزء من اتجاه عالمي حيث أصبحت المنصات الرقمية مساحات رائجة لنشر المعلومات والأخبار من قبل المؤسسات والأفراد العاديين الذي أصبحوا يقومون بأدوار الصحفيين. الالتزام بالمعايير المهنية والدقة في نشر الأخبار بالمعايير المهنية والدقة يمكن أن يساعد في عكس هذا الاتجاه.
كمثال، تناول القضايا المحلية والعالمية التي تهم فئات المجتمع، والصحافة الاستقصائية التي تكشف فرص التطوير في مؤسسات الدولة وأركانها، وتقدم التحليلات المتوازنة والمستقلة، وتعمل بمبادئ الشفافية والمساءلة بشأن مصادر المعلومات وطرق جمع الأخبار داخل المؤسسات الصحفية هي إجراءات مهمة وضرورية لإعادة بناء المصداقية وتوسيع نطاق التأثير.
تظهر بعض التجارب الناجحة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة كيف أن الالتزام بهذه المبادئ ساعدتها في تمتين العلاقة وبناء الثقة مع الجمهور. الاستدامة المالية هي قضية مُلحة. تقف الصحف اليوم أمام متطلب لتنويع مصادر دخلها بعيدًا عن الإعلانات التقليدية، التي شهدت انخفاضًا كبيرًا، حيث انخفضت إيرادات الإعلانات في الصحف المطبوعة بأكثر من 50% في السنوات العشر الماضية. استكشاف مصادر تمويل جديدة، مثل الاشتراكات الإلكترونية وتقديم المحتوى الحصري، واستخدام البث المباشر والتحليلات الرقمية لتوفير تغطيات شاملة وفورية للأحداث، يمكن أن يخلق بدوره فرص جديدة لتوليد الإيرادات.
اعتماد نماذج أعمال مبتكرة سيساعد المؤسسات الإعلامية على تخفيف المخاطر المالية وبناء أساس اقتصادي أكثر مرونة. مثال على ذلك هو نجاح وسائل الإعلام الدولية التي اعتمدت نموذج الاشتراكات، واستطاعت أن تفتح تدفقات إيرادات جديدة حتى مع تراجع إيرادات الإعلانات. بلغت إيرادات “نيويورك تايمز” من الاشتراكات الرقمية أكثر من مليار دولار في عام 2023.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا