استغرق العالم وقتا طويلا لكي يستيقظ من سباته، ويتحرر من أغلاله، وينتبه إلى الكارثة التي اقترفها بالصمت على جرائم الصهاينة في غزة، حتى تحولوا إلى كائنات متوحشة، ووصلوا حدا من العلو والغلو لايكبحهم فيه كابح، وصاروا يهددون البشرية والحضارة والقيم الإنسانية، ويضعون أنفسهم فوق الأمم، وفوق الشرائع والقوانين الدولية، ما دفع عدة دول أوروبية إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضد دولتهم النازية، والتلويح بعقوبات أشد إذا لم توقف حرب الإبادة والتجويع التي تشنها على الشعب الفلسطيني.
في الأسبوع الماضي اتخذت بريطانيا قرار تعليق مبيعات الأسلحة لإسرائيل، واستجواب الوزراء الذين يتورطون في تصدير السلاح إلى تل أبيب رغم القرار، وفرضت عقوبات على مستوطنين وكيانات استيطانية في الضفة الغربية بتهمة ارتكاب أعمال عنف ضد الفلسطينيين، واستدعت الخارجية البريطانية سفيرة إسرائيل في لندن وأبلغتها احتجاج بريطانيا على توسيع العمليات العسكرية في غزة ومنع المساعدات الإنسانية.
وجاءت هذه العقوبات استكمالا لعقوبات سابقة فرضتها بريطانيا العام الماضي (2024)، حيث أوقفت مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل، وتعهدت بتقديم مساعدات إضافية لغزة المحاصرة بقيمة تزيد على 5 ملايين دولار.
وفي السياق نفسه وافق الاتحاد الأوروبي بالأغلبية على اقتراح هولندي يتضمن تعليق العمل باتفاقية الشراكة الموقعة مع إسرائيل عام 2000، التي تمنح تل أبيب امتيازات تجارية عظيمة، ما يعني تهديدا اقتصاديا كبيرا لإسرائيل، ويضعها في عزلة اقتصادية غير مسبوقة، بالنظر إلى أن حوالي 40% من تجارة إسرائيل تتم مع أوروبا.
وكان الاتحاد الأوروبي قد فرض عقوبات على مستوطنين إسرائيليين متورطين في أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وبدأ مناقشات لتوسيع هذه العقوبات كي تشمل وزراء إسرائيليين، وأوقفت بعض الدول الأوروبية، مثل بلجيكا، مشاركة إسرائيل في برامج أكاديمية وبحثية، مثل برنامج “إيراسموس” و”هورايزن”، وأعلن وزير خارجيتها مكسيم بريفو دراسة إقامة جسر جوي لإيصال المساعدات إلى غزة، مع اقتراح توسيع نطاق العقوبات على المستوطنين والقادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين.
وقررت إسبانيا قطع جميع علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل، وناقش البرلمان الإسباني منع أي شكل من أشكال تصدير السلاح أو العلاقات العسكرية مع إسرائيل، وهددت فرنسا باتخاذ عقوبات مؤثرة ومراجعة الاتفاقيات الاقتصادية مع إسرائيل، وأكدت التزامها بالاعتراف بدولة فلسطين، وتحولت الدنمارك التي كانت مترددة إلى المطالبة بإدخال مساعدات إنسانية فورية إلى غزة، وبدأت ألمانيا الحليف التقليدي لإسرائيل في انتقاد العمليات العسكرية في غزة والمطالبة بوقفها، وأعلنت وزيرة الخارجية السويدية ماريا مالمر ستينرغارد عن نية بلادها الضغط داخل الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على وزراء إسرائيليين يدعمون السياسات الاستيطانية غير القانونية، ويعارضون حل الدولتين، ويطلقون تصريحاتت عنصرية للإبادة والتطهير العرقي.
ودعا الاتحاد الأوروبي إلى مؤتمر دولي في نيويورك الشهر المقبل لتعزيز حل الدولتين والاعتراف الشامل بدولة فلسطين، وقالت ساكسيا كلويت مقررة الجمعية العمومية لمجلس أوروبا ـ الذي يضم 46 دولة ـ إن ما يحدث في غزة “يشكل مأساة هائلة ترقى إلى مستوى التطهير العرقي والإبادة الجماعية، لأننا تركناها تجري على مرأى منا دون أن نتدخل”.
وأظهرت كندا استعدادا متزايدا لفرض عقوبات اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية على إسرائيل، وأبدت موقفا متشددا تجاه ضرورة وقف الحرب على غزة، وأصدر قادة كندا وبريطانيا وفرنسا بيانا مشتركا هددوا فيه باتخاذ إجراءات عقابية ملموسة ضد إسرائيل إذا لم توقف حربها على غزة وترفع القيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية.
وقد أعرب نتنياهو عن غضبه من هذه التحركات العقابية الأوروبية “المحيرة وغير المبررة”، وزعم أن العمليات العسكرية في غزة “حرب حضارية ضد البربرية”، وطالب الدول الأوروبية بالضغط على حماس بدلًا من إسرائيل، وقال إن موقف بريطانيا وفرنسا وإسبانيا مخز، ويمثل جائزة للإرهاب، واتهم الدول الثلاث بالوقوف في الجانب الخطأ من الحضارة والإنسانية وحركة التاريخ، مؤكدا أن إسرائيل لن تسمح أبدا بمنح (الإرهابيين) دولة إلى جوارها.
ونشرت صحيفة (اندبندنت) البريطانية الخميس الماضي مقالا للكاتب ألون بينكاس بعنوان (الكلمات القاسية لا تكفي) أشار فيه إلى تراجع الدعم الغربي لإسرائيل، والاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية، وتحول السياسيين المعروفين بدعمهم لإسرائيل إلى انتقاد الوضع في غزة، وحتى ترامب، الذي يُعد من أقرب حلفاء نتنياهو، بات مستاءً من سياساته ويتجاهله، مفضلاً التعامل مع قوى أخرى في الشرق الأوسط، وهو ما يؤكد أن حكومة نتنياهو أصبحت عبئا على إسرائيل، ويجب على الشعب الإسرائيلي التخلص منها.
وقال بينكاس: “ترامب في الحقيقة لم يقلل من شأن إسرائيل، بل نتنياهو هو من فعل ذلك بنفسه عبر سنوات من التحدي والغطرسة والسياسات المتهورة، وتمثل التطورات الأخيرة تسونامي دبلوماسياً ضد إسرائيل يزيد من عزلتها ونبذها دوليا، ويبقى الحل في يد الولايات المتحدة من خلال خيارين؛ إما الضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب، وإما تجاهل الأمر، وكلا الخيارين سيولد المزيد من الانتقادات الأوروبية، وسيدفع إلى إجراءات ملموسة ضد إسرائيل، وسيكون يوم حسابها قريبا مادامت تتجاهل وتسخر وتتحدى أفكار الحلفاء ومقترحاتهم السياسية منذ 1967”.
ورغم أن البعض قد يرى في العقوبات الأوروبية محاولة لذر الرماد في العيون وتهدئة الرأي العام الأوروبي المناهض للحرب دون نية حقيقية لتطبيق عقوبات صارمة، إلا أن تواتر هذه العقوبات فيما يشبه الطوفان ربما يمثل صحوة ضمير متأخرة من الذين صنعوا إسرائيل وأنشأوا دولتها وتعهدوها بالرعاية والحماية والتمويل، فالواضح أننا أمام بداية لتحول تاريخي غير مسبوق يتم التعبير عنه علنا، ويوصف علنا بأنه انقلاب في المواقف.
