في زيارتي الأخيرةِ له، أكَّد لي أنَّ الأصواتَ التي أسمعُها ليستْ حقيقيَّة، وأنَّ الحقيقةَ هي أنني صَنعتُ الجزءَ الذي أفتقِدُه. والأشخاصُ الذين يظهرونَ في ذهني ليسوا سوى ظلالٍ. ابتسمت.
قال حرفيًا إنني أشعر بوحدة، جعلتني أخلق حولي ضجيجًا وأتخيّل أنه “أنا”؛
ينشطر إلى أجزاء تشبهني في خصالٍ أكرهها..!
لكنهم موجودون دائمًا،
يُشاركونني تفاصيلَ صغيرة، لا يراها أحدٌ سِوَاي، تلك التفاصيلُ المختبئةُ داخلي،
وكنتُ أعتقدُ أنَّ أحدًا لا يمكنه رؤيتَها،
أهرب إلى حقيقتي، التي لم يرَها أحدٌ من قبل؛
حقيقةٌ لا يمكنهم فهمها.
أمشي يومًا تلو الآخر في تلك الدائرة الضيقة من ذاتي،
المكانِ الذي لا يستطيع الآخرون اقتحامَه.
ولكن في عمق داخلي، أعرف أنني محاصر..!
ألتقيهم،
بأكثر الشخصيات المختبئة داخلي قوّة،
أكثرهم اكتمالًا،
وأكثرهم عزلة.
وما لم أخبر به الطبيب:
أنني متُّ بالفعل مرّاتٍ عديدة…
وكان أحدهم ينهض مكاني.
لا يشبهني، لا يحمل ملامحي، ولا بصمة قلبي،
ولا يؤمن بالصفح كما كنت أفعل.
صرتُ الغريبَ الذي كنتُ أرتعب منه.
لكنّ شيئًا بداخلي بدأ يهمس لي بحقيقةٍ أعمق:
ماذا لو لم أكن أهرب منهم…
بل أُخفي نفسي عنهم بصورةٍ يرونها؟
ماذا لو كانت تلك العزلة، ليست ملاذًا… بل قناعًا؟
ماذا لو كنتُ أتعمد إخافتهم؟
هناك لحظاتٌ قصيرة،
تتسرّب خلالها مشاهد لا أجرؤ على الاعتراف بها؛
نظراتٌ قاسية،
نوايا لم أنفّذها… لكنها راودتني.
أطيافُ مواقفَ ارتجفتُ منها لاحقًا،
لا لأنني لم أردها،
بل لأنني رغبتُ فيها أكثر مما يجب..!
ولكن… لستُ متأكد إن كنتُ أنا من ارتكبها
أم أحدهم.
لا أعرف مَن منهم الذي قتل جارتي العجوز!؟
ومن كان يطعمها ويعطف عليها؟
لا أدري من منهم تنمّر على المارّة،
ومن اشترى ملابس لفقراء المأوى..!
من أخلص في العمل، ومن أشعل النار في المخازن
من يعشق صمت الجدران،
ومَن يسكن الغرفةَ المغلقةَ التي لا أستطيع دخولها؟!
لا أعرف. لا أعرف شيئًا..!
في تلك اللحظات، لا أكون الضحية،
ولا الساكن الهارب…
بل شيء آخر، ربما ظل عدو ، لا يُشفى منه.
لم يكن الطبيبُ على حقٍّ تمامًا.
الأصواتُ التي أسمعُها، لم تكن كلُّها من صُنعِ خيالي.
أحدُهم… كان يعرِفُني.
كان يهمِسُ بأسرارٍ لم أُبُحْ بها قطّ.
في الزيارةِ التالية،
فتحتُ الدفترَ الذي أكتبُ فيه كلَّ ما أسمعُه،
فوجدتُ خطًّا ليس خطِّي، ولا يشبهه
وجملاً لم أكتبْها:
“أَنْ تَ، لَسْ تُ. وَحْدَ كَ، أَنْ ا. لَسْ تُ، أَنْ تَ.”
“أن ا، ق ت ل ت. “ماري”، وأن ت. ك ن ت، ت ط ع م ه ا.”
ومع مرورِ الوقت، بدأتُ أَشُكُّ…
هل كنتُ أنا مَن خَلَقَ تلك الأصوات؟
أم أنني مجرَّدُ صدىً لصوتٍ آخر؟
هو القاتل،
صوتٌ كان هنا قبلي،
يُقيمُ في داخلي منذ زمنٍ،
ينتظرُ لحظةَ ضعفي… لينطِق،
الطبيبُ لم يعرِفْ كلَّ شيء.
لم يعرِفْ أن بعضَ الظلالِ بدأتْ تخرُجُ من داخلي،
وتعيش معي في البيت،
تذهب وتجيء، وتستخدم ملابسي، وأشيائي،
أتظاهر بعدم رؤيتِها.
لم تكن مجرَّدَ خيالات،
كانت تمشي خَلفي، وبجواري، تُحرِّك الأشياء،
وتعبَثُ بالزوايا حين تعتقد أن لا يَراها أحد،
حينها،
أدركتُ أنَّ العزلةَ لم تكنْ اختياريَّة…
بل كانت فخًّا نُصِبَ لي بإحكام..!