زمان و احنا أطفال في المدرسة الابتدائي في قريتنا الصغيرة الجميلة … أعلن ناظر المدرسة في الطابور الصباحي و لأول مرة عن مسابقة بمناسبة عيد الأم !
طلب مننا اننا في يوم عيد الأم .. نجيب معانا في المدرسة الهدايا اللي هنقدمها لأمهاتنا .. و أجمل هدية , هتاخد الجايزة الأولى !
……………
تحمسنا للفكرة .. و كل واحد فينا رجع بيته , حكي الموضوع لوالده و والدته , عشان يساعدوه أنه يجيب احسن و أغلى هدية .. عشان يفوز في مسابقة المدرسة !
………..
يوم الحفلة .. كل تلميذ تقريباً كان جايب هدية محترمة أوي لوالدته !
بالطبع كان واضح جداً أن الهدايا كلها , يقف وراءها الأباء و الأمهات , اللي كل واحد منهم كان أهم حاجة عنده , إن إبنهم يفوز في مسابقة المدرسة بجايزة أحسن هدية للأم في عيدها !
………..
تحول فناء المدرسة إلى ما يشبه الكرنفال في أجمل صورة !
كل التلاميذ قد جاءوا و كل منهم يحمل بين يديه هديته لأمه !
تنوعت الهدايا ما بين من أحضر معه هدايا ذهبية من نوعية خاتم . أو غويشة … أو كردان .. او حتى خلخال !
و منا من أحضر ملابس , يبدو من شكلها أنها غالية الثمن .. فستان بالترتر !! .. جزمة لسه بعلبتها ما اتفتحتش !! .. جاكت جلد !!.. شنطة حريمي لسه بتبرق جوه الكيس بتاعها !
و منا من أحضر معه العطور الغالية الثمن .. مختلفة الأنواع و مختلفة الأشكال و مختلفة الأحجام !
و منا من أحضر من محل والده , طاولة كبيرة , عليها كل ما طاب من المحل من شيكولاتات و حلويات و كرملة و ملبن !
……..
هدايا أشكال و ألوان , من الواضح جداً دور الأباء و الأمهات فيها .. أما دور التلاميذ فيها فكان مجرد ( حملها ) فقط !!
…………………………….
ميكروفون المدرسة منذ الصباح الباكر يبث على غير عادته , بدلاً من الأغاني الوطنية , كان يبث أغاني عيد الأم من ست الحبايب يا حبيبة .. إلى ماما يا حلوة يا أجمل غنوة .. في جو مبهجٍ بهيجٍ لم نعهده قبل ذلك !
……………………….
ثم ما هي إلا لحظات , ليعلن حضرة الناظر في ميكروفون المدرسة عن بدء فقرات الإحتفال , حيث أمرنا أن نصطف جميعنا في صفوفٍ منتظمة , تماماً مثلما نفعل كل صباح في أيام الدراسة العادية !
ثم أمر كل منا بالترتيب أن يتقدم خطوات حتى يبلغ منتصف الفناء , و معه هديته لأمه … ثم يعرض هديته على الملأ .. و صاحب أعلى تصفيق و أعلى تشجيع و أعلى هتاف و صياح , سيكون هو الفائز بالجائزة !
……………………
تقدم كل منا يعرض هديته أمام كل تلاميذ المدرسة … مستعرضاً شكلها و جمالها .. يقابله ثناءُ من حضرة الناظر و مدرسين المدرسة , الذي ما إن يصفق بيديه إعجاباً , إلا و يحذو حذوه كل تلاميذ المدرسة بعاصفة من التصفيق بعد تصفيقه !
…………..
إنتهينا من عرض هدايانا , حتى لم يتبق منا إلا ( عبد الله العباسي ) !
و عبد الله … كان طفلاً بسيطاً في كل شيء !
بسيطاً في ملابسه التي يرتديها لعامين متتاليين !
و بسيطاً في حقيبة مدرسته التي لم تكن إلا كيس من القماش , حاكته والدته , و أضافت له ( تعليقة ) يضعها حول كتفه !
و بسيطاً في حذائه .. أو بمعنى أصح .. حذاء أخيه الأكبر بتاع السنة اللي فاتت , اللي من غير رباط !!
تقدم عبد الله ليعرض هديته لأمه , و التي لم تكن إلا وردة بسيطة مثله .. قد قطفها من حديقة المدرسة !
…………………………………….
نظرنا إلى بعضنا نظرات طفولية شقية , مصحوبة بإبتسامة ماكرة , تتمحور معانيها حول : إيه اللي عبد الله جايبه لأمه ده ؟!
همهمات دارت بيننا , تصحبها جمل إستنكارية غير ناضجة , عن غباء عبد الله و استعباطه و قلة عقله اللي خلته جايب وردة في وسط الهدايا الثمينة الغالية الأخرى !
ليقطع علينا حضرة الناظر ما نحن فيه , عندما قام بالتصفيق بحرارة بالغة فاقت كل ما فعله مع أي منا !
ثم تبعه كل مدرسين المدرسة بتصفيقٍ فاق تصفيقه !
ثم بالأمر المباشر الغير معلن, تبعناه جميعنا في تصفيقٍ حادٍ يصم الاذان متماشياً مع حماسة حضرة الناظر التي ألهبتنا نظراته الثاقبة لنا و كأنه سيكتب إسم كل من لم يصفق بضمير , ليعاقبه على ذلك أشد العقاب !
……………………………………
تقدم بعد ذلك حضرة الناظر لمنتصف الفناء و بيمناه الميكروفون , بينما وضع يده اليسرى بكل حنان الأبوة على كتف عبد الله , و قد احتضنه إلى جانبه , ثم قال :
الجايزة الأولى .. سيحصل عليها عبد الله العباسي !
……………………………………..
إستبد بنا الوجوم .. و شعرنا بخيبة الأمل .. و إبتلعنا أحزان فشلنا في الفوز بالجائزة , مندهشين و مستغربين من ازاي عبد الله اللي ما جابش لامه غير حتة وردة دبلانة من الجنينة , هو اللي يفوز ؟ !!
و أقل واحد فينا جايب هدية لأمه بشيء و شويات , ما ياخدش الجايزة ؟!! !!
………………………………………
إنتهى الحفل !
و إنتهى أعظم درس خرجنا به إلى مضمار الحياة !
أن الحب لا يتناسب طردياً أبداً .. مع قيمة الهدية !
أن الإهتمام .. يعادل كنوز الدنيا و ما فيها !
أن ( كلمة ) يتذكرك بها أحدهم , و أنت بعيد … تعادل ملايين الكلمات .. و أنت قريب.
