نشأت في الريف وسط ثقافة سائدة بأن الاستيقاظ بعد شروق الشمس جريمة ، وكثيرا ما كنا نسمع صيحات الأباء والأمهات :” السمس طلعت وعلت وانتم لسه نايمين “. وأن السهر بعد العاشرة مساء ” صياعة” ، وأن شراء الخبز من السوق عيب ، وكانت أهم صفة لأي عروس أن تجيد الخبيز . وكانت كثير من الأسر ترفض تزويج بناتها لأبناء الأسر التي تشتري الخبز من السوق . أما عن الأخلاق الحسنة فيكفي أننا لفترة قريبة كنا نتغنى بأخلاق القرية .
كانت القرية وقتها منتجة تمد المدينة بإحتياجاتها وتكتفي ذاتيا ، وأعرف بيوتا كانت تعيش بالأسابيع دون حاجة إلى نقود . حاليا إنقلب المشهد وتحولت القرى إلى مستهلكة ويشهد على ذلك الطوابير الممتدة أمام المخابز في القرى ومنتجات الالبان المغلفة التي تباع في محلاتها ، وانتشرت المقاهي ، ويمتد السهر إلى مطلع الفجر.
الغريب أن هذا الانقلاب في دور القرية لم يستغرق وقتا طويلا ، وأعتقد جازما أنه بدأ عام 1974 مع بداية الانفتاح الاستهلاكي ، وفتح الأبواب أمام سفر العمالة الزراعية للخارج مما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي ، والأخطرهجمة البناء على أخصب الأراضي بأموال البترودولار . هذا التحول الكبير في دور القرية خلال فترة زمينية قليلة ، يكشف أنه لم يتم صدفة ، وأكاد أجزم انه له علاقة بانتصار اكتوبر 1973 حيث كان الريف وأبنائه أحد العوامل الرئيسية في تحقيق النصر .
جرت محاولات كثيرة لإستعادة الدور الإنتاجي للقرية المصرية ولكنها لم تكتمل . الأسبوع الماضي كنت شاهدا على إحدى المحاولات الجادة في هذا الصدد بالمشاركة في إفتتاح (المنتدى الوطني.. تنمية المشروعات الزراعية المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر ) بالمركز القومي للبحوث ، بدعوى من ا.د. وفاء حجاج رئيس شعبة البحوث الزراعية والبيولوجية والمنظمة للمنتدى، حملها د. عبدو السباعي عضو اللجنة المنظمة.
وبالرصد الدقيق لأوراق عمل المنتدى والأوراق المرافقة يتضح أننا أمام بادرة جادة وطيبة ، تستحق الدعم، لاستعادة الدور الانتاجي للقرية ورفع مستوى معيشة الفلاحين الذي تدهور كثيرا من خلال مئات المشاريع الإنتاجية التي قام بإعدها كوكبة من كبار العلماء والباحثين العاملين بالمركز القومي للبحوث وتتميز بإمكانية تنفيذها وبمردودها العالي ، وموزعة على مشروعات للانتاج النباتي ، ومشروعات للانتاج الحيواني ، ومشروعات من منتجات إحيائية ، ومشروعات من المتبقيات الزراعية ، مشاريع صناعية ، ومشاريع متكاملة.
والمجال هنا لا يكفي لعرضها جميعا، ومنها على سبيل المثال مشروع لانتاج الخشب المضغوط عالى الجودة ( الابلاكاش ، الكونتر ، الحبيبي ) من سعف النخيل، ومشروع لتحضير مشروب لبني لأطفال التوحد ذو قيمة غذائية عالية من مواد محلية ، ومشروع لانتاج علاج لمرض السمنة من مستخلص قشر اليوسفي .
وتتضح جدية المنتدى بأنه دعا لحضوره الباحثين والمستثمرين والمسئولين التنفيذيين . كما تتضح الجدية في تأكيدات الاستاذ الدكتور أشرف شعلان رئيس المركز القومى للبحوث بأن المركز لديه كافة الأمكانيات لتقديم الاستشارات والتدريب والدعم المعنوي لكافة المشروعات.
والظاهرة الجديرة أيضا بالإهتمام أنه تم التحدث في المنتدى عن نماذج عملية لتنفيذ مشروعات بحثية على أرض الواقع ومتابعة الإنتاج من خلال الباحثين بمركز البحوث . وهي بادرة مبشرة ، فطالما دعونا للاستفادة من نتائج عقول أبناء مصر في زيادة الانتاج وتحسين مستوى المعيشة في كل المجالات .
Aboalaa_n@yahoo.com