أصبح موضوع تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى مصر ظاهرة تشغل بال المسئولين خلال السنوات الأخيرة بصفة خاصة وتكثر الإشادة بها في تصريحاتهم وبياناتهم بشكل متكرر ومكثف.
وتوحي هذه المواقف للكثيرين بأن حل مشاكل الاقتصاد المصري وتحقيق النمو الاقتصادي لا يمكن أن يتم إلا من خلال سبيل أساسي هو اجتذاب رأس المال الأجنبي بشتى السبل ومنحه المزايا والتيسيرات والإعفاءات التي تشجعه على التدفق.
ولتحقيق هذا الهدف اهتمت الحكومة بتهيئة المناخ العام والأطر التشريعية والتنظيمية وإعداد البنية الأساسية لاستقباله. وبعد أن كانت هناك مجالات محددة يمكن للاستثمار الأجنبي أن يعمل فيها تم بالتدريج فتح كل المجالات والقطاعات تقريبا أمامه ليعمل دون قيود مع استثنائه من الخضوع لكثير من التشريعات والقواعد.
هذا فضلا عن السعي ” لتسويق” الاقتصاد المصري في كثير من المحافل والمنتديات الدولية ولدي كثير من المنظمات الدولية ومكاتب الخبرة التي تروج لحرية الاستثمارات الأجنبية والشركات دولية النشاط.
وأصبح من مظاهر الاحتفاء برأس المال الأجنبي أن يقوم كبار المسئولين بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء باستقبال رؤساء الشركات والبنوك دولية النشاط سواء في مصر أو عند قيامهم بزيارات للخارج، وأن تتضمن الوفود الرسمية القادمة إلى مصر عددا من رجال الأعمال بجانب الرؤساء ورجال السياسة.
كما أصبحت مصر تسعى لاستضافة أكبر عدد من المؤتمرات والندوات الاقتصادية والمالية الدولية والإقليمية التي تجمع بين كبار المسئولين الحكوميين من ناحية ورجال الأعمال المصريين والأجانب من ناحية أخرى مثل المؤتمرات التي يعقدها منتدى التجارة العالمي (منتدى دافوس) ومؤتمرات مؤسسة يوروموني ومؤسسة ميد والمؤتمر الدولي للتجارة والاستثمار (ايجبت انفست)
وملتقى ” مصر تفتح أبوابها للاستثمار، ومؤتمرات مجالس الأعمال وجمعيات الصداقة مع الدول الأخرى ومؤتمرات الغرف التجارية والصناعية المشتركة وغيرها. ولا شك أن هناك فرق بين استضافة المؤتمرات والندوات كنشاط سياحي يدر دخلا وبين رعاية الحكومة والمؤسسات التابعة لها لهذه اللقاءات، وهي رعاية تتضمن الإنفاق ببذخ تتحمله الجهات الراعية ويستفيد منه أساسا الجهة التي تنظمه.
كما نشطت في ذات الاتجاه بعثات طرق الأبواب التي تنظمها غرفة التجارة الأمريكية لمسئولين ورجال أعمال من مصر للالتقاء بنظرائهم في الولايات المتحدة لتشجيع قدوم الاستثمارات الأمريكية الى مصر. كما يلاحظ في ذات الاتجاه المشاركة الواسعة لمسئولين مصريين في المؤتمرات والندوات التي تعقد بالخارج لعرض الوضع الاقتصادي ومناخ الاستثمار في مصر على المستثمرين المحتملين وشركات الترويج وغيرها.
والى جانب ذلك يلاحظ الاهتمام المبالغ فيه بالتقارير الصادرة عن مؤسسات التقييم الدولية وشركات الاستثمار مثل موديز وستاندرد آند بورز وفيتش ومعهد التمويل الدولي وكذا مؤسسات البنك الدولي والأمم المتحدة وغيرها من الجهات التي تصدر بشكل دوري تقارير عن كثير من دول العالم ومناخ الاستثمار فيها وتوضح مدى ما تتمتع به كل دولة من جدارة ائتمانية في الأجلين القصير والطويل ومدي استقرار أوضاعها السياسية والاقتصادية ومدي انفتاحها على العالم الخارجي.
ويلاحظ أن هذا الاهتمام من جانب المسئولين في مصر يقل بشده إذا أشارت هذه الجهات إلى تراجع ترتيب مصر أو إلى تراجع جدارتها الائتمانية، وحينئذ فقط يشير المسئولون المصريون إلى حقيقة أن قدرا كبيرا من هذه التقارير يتضمن تجميعا لانطباعات ولآراء أكثر منه حقائق ومعلومات.
في ظل هذا الاهتمام تتطلع الحكومة إلى جذب مزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر، وتتطلع شركات دولية النشاط إلى ممارسة نشاطها في مصر ليس فقط باعتبارها سوقا واسعة ولكن باعتبارها مركزا إقليميا واستراتيجيا هاما. وقد شهدت السنوات السابقة تحقق كثير من أهداف الطرفين – خاصة مع اتساع نطاق الخصخصة واتساع المجالات التي يمكن لرأس المال الأجنبي العمل فيها.
اجتذبت مصر قرابة 8 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة مصر العام الماضي، معظمها في قطاع البترول، وهو رقم يبدو مشجعا، لكن ليس عند مقارنته بالتوقعات الحكومية المعلنة لاجتذاب ما بين 10 و12 مليار دولار، ما يطرح تساؤلا عن التحديات التي حالت دون تحقيق الأهداف الحكومية؟
قصة الاستثمار الأجنبي في مصر. تتشابك أحداثها مع جهات عدة. والهدف واحد وهو تهيئة مناخ الاستثمار بالتزامن مع سلسلة من إجراءات الإصلاح الاقتصادي ضمن أجندة برنامج صندوقِ النقد الدولي. ورغم اتساع نطاقِ الاستثمارات وتنوّعها في مصر إلا أن التدفقاتِ الاستثمارية تتركز في قطاعات العقارات، والصناعات الغذائية، والبترول والغاز، والطاقة المتجددة.
فبلغةِ الأرقام. ارتفعت تدفقاتُ الاستثماراتِ الأجنبية المباشرة العام المالي الماضي بنسبة 7%، إلى 7.9 مليار دولار. منها 4.5 مليار دولار بقطاع البترول. لكن هذه البياناتِ تمثلُ صدمة في ضوء توقعات حكومية بجذبِ عشرة إلى 12مليارَ دولار. فالحكومة تهدِف للوصولِ بصافي الاستثمارِ الأجنبي المباشَر إلى نحو 20 مليارَ دولار في 2021-2022.
لكن كيف يرى المستثمرُ الأجنبي صاحبُ الأنشطة القائمة فعليا في مصر فُرص التوسع ..وماذا يطلبُ من الحكومة لإتاحةِ المجال أمامَ تدفقِ الاستثمارات الأجنبية المباشرة؟ عواملُ عدة أثرت سلبا على تدفقاتِ الاستثمار الأجنبي المباشر، على رأسِها الغلاء الناتج عن الإصلاح الاقتصادي مع انخفاض الطلب على السلع والخدمات وهو ما ساهم في ضعف القوة الشرائية للمواطنين وأدى إلى تأجيلِ توسعاتِ الشركات الأجنبية في مصر، وانتظار شركات أخرى تفكر في دخول السوق، لكن الحكومة تتوقع تعافيا قويا خلال العامين الحالي والمقبل.
ان لاستثمارات الأجنبية في مصر تركزت في صناعة النفط والغاز، حيث جذبت الاكتشافات المهمة لاحتياطيات الغاز في الخارج استثمارات من الشركات متعددة الجنسيات
يعتمد الاقتصاد بشكل أساسي على متانة قطاع الأعمال، فبعد أن تضع الحكومة القوانين والأنظمة التجارية للبلد، يبدأ القطاع الخاص في مساعدة الحكومة في بناء الاقتصاد وذلك من خلال تأسيس شركات ومؤسسات تجارية وخدمية، تنتقل من خلالها الثروات بين الأطراف، وتوفر فرص العمل للمواطنين.
لان تأسيس الشركات في مصر ارتفع بشكل كبير جدًا، حيث ارتفعت نسبة التأسيس بنسبة 28%، هذا الرقم غير مسبوق من قبل”. وزيادة الكفاءة في منشآته، فإنه بذلك يصبح عرضة لأي تغيير اقتصادي. فالشركات المعتمدة على الحالة الاقتصادية الممتازة، والرفاهية الاقتصادية، أكثر عرضة للانتكاس عند أي تغير اقتصادي سلبي، كذلك الشركات ضعيفة الفعالية والتي تملك عدد موظفين أكثر من حاجتها، والأخيرة عادة هي من يضر الاقتصاد المصري بشكل كبير،
وحافظت مصر على تصنيفها باعتبارها الوجهة الأكثر جاذبية للاستثمارات الأجنبية المباشرة في أفريقيا خلال نفس الفترة، بعد ارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة “المتوقعة” بنسبة 24% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وسجلت إجمالي الاستثمارات المباشرة المتدفقة 7.7 مليار دولار في العام المالي 2018/2017، مقابل 7.9 مليار دولار في العام المالي 2017/2016.
وعلى مستوي القارة الإفريقية سجلت جنوب أفريقيا ارتفاعا كبيرا في الاستثمارات الأجنبية بلغ 40% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، في حين تراجعت تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى غرب أفريقيا، والتي تتركز على الموارد الطبيعية، بنسبة 17%.
تؤدى عملية الاستثمار الدولي من وجهة نظر منظريه إلى مزيد من التشغيل والحد من ارتفاع الأسعار والتضخم فوفقا لوجهة نظر منظري الاثر الإيجابي للاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر سيؤدى إلى مزيد من الإنتاج القومي والتشغيل الكلى ومزيد من الاستثمار الحكومي الخارجي والقومي، مما سيؤدى إلى نمو الناتج القومي وانتقاله إلى منحنى أفضل ليعكس مزيد من التشغيل وانخفاض في الأسعار
وهو غاية في أي دولة نامية، ولكن حقيقة الأمر كان على عكس ذلك تماما حيث ارتفع الطلب نتيجة ازدياد الميل للاستهلاك، وخاصة استهلاك السلع المستوردة مع الأخذ في الاعتبار أن نمو العرض كان نمو وهمى نتيجة زيادة الصادرات زيادة طفيفة في مقابل زيادة كبيرة في الواردات، مع زيادة إيرادات الدولة زيادة ليست بقدر الزيادة في الإنفاق الحكومي، هذا بالإضافة إلى زيادة الاستهلاك. أما زيادة التشغيل فهي زيادة وهمية نتيجة عدم فتح فرص للعمل نتيجة أن الشركات متعددة الجنسيات تستخدم تكنولوجيا كثيفة رأس المال، مما يؤدى إلى خلق فرص قليلة للعمل، بالإضافة إلى تفضيل هذه الشركات لاستخدام العمالة الأجنبية،
وأخيراً فإن العمالة المحلية المستخدمة، إما أنها عمالة محلية غير ذات مهارة عالية، وبالتالي فإن اجورهم لا تكون عادة مرتفعة، او أنها قوة عاملة كانت تعمل فعلاً في القطاع المحلى.
مما سبق يتضح أن أثر هذه الشركات على خلق فرص عمل جديدة يصبح محدود جداً، بل على العكس قد يؤثر وجود الشركات متعددة الجنسية على العمالة تأثير سالب، حيث أنها تسحب من الحكومة والقطاع العام الخبرات المتخصصة، وهذا ما يمثل هجرة الكفاءات العلمية والفنية داخل الدولة.
دكتور القانون العام ونائب رئيس اتحاد الاكاديميين العرب
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان