إن مسلسل الاغتيال الفكري لن يتوقف، وناهض حتر لن يكون الأخير، لأن قوى التكفير والظلام لا تتورع من استخدام جميع الوسائل للوصول إلى غاياتها، خصوصاً وأنها غير قادرة على المجابهة تحت نور الشمس، إلاّ بالتأثيم والتحريم والتجريم، فتلك وسيلتها باستخدام الدين وتوظيفه لأغراضها السياسية الأنانية الضيّقة، والتي تتعارض مع سياق تطوّر المجتمع، بل ومع سمة العصر، والتقدم الذي حصل على المستوى العالمي.
عندما يعجز المتسلطون عن اغتيال البشر وتصفيتهم جسدياً فإنَّهم يغتالونهم فكرياً، فالرجل يغتالون رجولته، والمرأة أنوثتها، والشباب عنفوانهم، والإنسان إنسانيّته! تعدَّد الأساليبُ وتتنوَّع وتشتدُّ فعاليةً وخطورةً فيما بينها، وأعلاها خطورةً -مما يمارس على الشعوب الإسلامية- هو التشكيك في المعتقدات الدينية والسعي لمحو الإيمان بالله تعالى،
ولا شكَّ في أنَّ هذا لَخطرٌ عظيمٌ جداً لما نعلم من أنَّ السلوك لا بدَّ من أن ينشأ من فكرة فإذا تغيَّرت تغيَّر السلوك. نعم أنت قادر على أن تغيِّر هذا الواقع بعد أن تُعمِل دورك وقدراتك التي وهبك الله إياها.
واعلم أنَّ لك هدفاً لا بدَّ من الوصول إليه تحتاج إلى تحقيقه على كلِّ المستويات وهو عبادة الله التي تتمثّل بإجادة العلاقة مع الله والنفس والناس، فإذا ما تحقَّق هذا الهدف عجز أعداؤك من المتسلّطين -فضلاً عن غيرهم- أن يغتالوا فكرك.
أول جريمة على وجه الأرض كانت جريمة قتل؛ ومع تطور البشر تطورت أشكال القتل واختلفت دوافعه وأسبابه، حتى وصلت الى الاغتيالات التي تبدأ بالتصفية الجسدية، وتصل إلى الاغتيال الفكري والمعنوي،
وإذا كان النوع الأول يصنّف إرهاباً بصورة مباشرة، وتعمل الدول على مواجهته ومطاردة مرتكبيه، فإن النوع الثاني – أي الاغتيال الفكري – بات أكثر انتشاراً مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي، التي يتحرك في فلكها “خفافيش الظلام” ولا يتوانون عن محاولة تدمير الشخصيات عن طريق بثّ الشائعات وشنّ الحملات المنظمة ضدّ من يخالفهم الرأي أو الفكر، وفي كثير من الأحيان يحدث ذلك لأسباب محض شخصية وفردية.
ممارسو هذا النوع من الاغتيال لا يعترفون سوى بأفكارهم وأيديولوجياتهم، ويصنفون كل من يناهضهم كافراً أو علمانياً أو ليبرالياً أو ملحداً، ولا يعترف بالإنسانية فكل من يقف أمام الايدلوجية التي تعشش في عقولهم يحلل دمه أو يغتال فكرياً بمحاولة إسقاط شخصه اجتماعياً، وقد رأينا أولئك الخفافيش ينتشرون عبر التواصل الاجتماعي في منطقة الخليج العربي، محاولين بصورة حثيثة اغتيال كل فكر أو اتجاه يعرقل توغلهم في المجتمع.
نعم، هو ذلك الفكر الظلامي الإرهابي المتشدد المتخفي بعباءة الإسلام الذي يفتك بالمجتمعات من خلال عقولهم ويسعى إلى تشويه كل ما هو جميل في دين الإسلام الحنيف، وأصحاب هذه الأيديولوجية المتخفية لا يقلون خطورة عن جماعة الإخوان الإرهابية بل هم أخطر بكثير من أي إسلام سياسي آخر، وصلتهم بالتطرف لا تقل قوة عن داعش والإخوان، وكما لكلّ جماعة متطرفة “مرشدها”،
فإن أولئك لا يعترفون إلا بأشخاص معينين يتبعون فكرهم، ولا يعترفون بالمؤسسات الشرعية التي تتولى التشريع والإفتاء، بل يلجأون الى فتاوى من خارج الدول ويحاولون بثها في المجتمع، متهمين كلّ هيئة قانونية أخرى بالبدع، مختصرين صحيح الإسلام في أنفسهم فقط. أنما يستوطن في القلب من ألاماً تزيد من قسوتها كلما عايشت ذلك المشهد اليومي في مجتمعنا العربي والاسلامي
والذي يتكرر بشكل متزايد كل يوم حتى وصل الامر بان يشاهد ذلك الحدث في القرية الواحدة بل وفي الاسرة والمنزل الواحد تلك التكتلات الحزبية والمذهبية التي يفتري بها الفرد المسلم على نفسة ومجتمعه حين يضعها محل اختلاف وجدال أثارت كثير من المشاكل والنزاعات حتى تجسدت ثقافة الكراهية والعداء بين ابناء المجتمع والاسرة الوحدة.
والجدير بالذكر ان مروجوا هذه الخلافات حتى اصبحت محل نزاع وعداء إنما هم أفراد يستخدمون جهل بعض الناس لإشعار الفتنة بيتهم مستخدمينها كأذاه للثروة والشهرة وليس لما يدعون من أهداف دينية او توجهات إصلاحية نبيلة نحو الاستقامة والرقي بالمجتمع كما هوا من المفترض أو من المعلن ظاهريا مستخدمين أسلوب الخداع واستغلال عواطف العامة من الناس البسطاء التي يمكن تجييشها بسهولة
إن الدولة انخرطت في استراتيجية التيار الأصولي المتشدد واستسلمت لمخطط “الدعوشة” الذي يتغلغل داخل المؤسسات الدستورية بمختلف مستوياتها التشريعية والقضائية والدينية والتربوية والإعلامية؛ بحيث لم يعد التيار الأصولي وحده يهاجم، بشيوخه التكفيريين وأتباعه المتطرفين، قيم الحداثة والتنوير ويستهدف المثقفين والفنانين والسياسيين والإعلاميين والهيئات النسائية والحقوقية، وإنما تخندقت معه الدولة بمؤسساتها لتقوية هذا التيار وكبح مسار الانفتاح والتنوير. إن السياقات المتسارعة التي تعرفها البيئة الاستراتيجية في المنطقة العربية،
والتي أصبح فيها الإخوان المسلمون طرفاً رئيسياً في الصراع، تفرض علينا وضع هذه الجماعة تحت مجهر التحليل والتشريح لمحاولة فهم البنية السيكولوجية للإخوان والتي أفرزت لنا فكراً عنيفاً جعل من (الإخوان) أينما حلوا وارتحلوا من بقعة أو مكان إلا وفاحت منه رائحة الدماء والجثث والأشلاء.
لا نستطيع القول إن كل تلك الجهود، ولم نأت إلا على جوانب منها لضيق المجال، قد انتهت مآلاتها من دون رجعة، لكن يمكن القول، وهذا ما حصل بالفعل، أنها تعرضت لانتكاسات على يد الأجيال التي تلتها. ومِن قراءة للوضع الحالي، أن الدَّعوة إلى التَّنوير والتَّجديد ستعود مِن جديد، وبطرق وأساليب مختلفة، فما آلت إليه المنطقة أمسى لا يُطاق، مِن تصاعد الغلو والتَّطرف الدِّيني والمذهبي، وكل هذه المفردات توضع في خانة الظَّلام، وببلدان كانت واحات لذلك التَّنوير، كالعراق ومصر والشَّام، وبلدان المغرب العربي كتونس مثلاً، بما يمكن تحميل الأنظمة الاستبدادية، التي حكمت هذه البلدان، الحصة الكبرى مِن تقهقر مشاريع التَّنوير، وقد استعيض عنها بالإيديولوجيات والقهر الحزبي.
لم يكن اليهود لتكف عن إيقاد نار الحروب ضد المسلمين، فبعد أن أجليت بنو النضير عن المدينة اتخذوا خيبر وكراً لتآمرهم وقاعدة لانطلاق مسعري نار الفتنة إلى القبائل العربية، فقد ركب حيي بن أخطب وسلام بن مشكم وكنانة بن أبي الحقيق وهو ذه بن قيس وأبو عامر الفاسق إلى قريش في مكة يحرضونهم على حرب الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبقوا معهم يوسوسون لهم ويزينون لهم قتال المسلمين حتى حملوا خمسين رجلاً من بطون قريش على التحالف وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة متعلقين بأستارها أن لا يخذل بعضهم بعضاً ويكونون يداً واحدة على محمد ما بقي منهم رجل.
وإذا ما كان مسرح حادث الاغتيال يتمتع بإجراءات أمنية غير عادية، يصبح على الجهات المعنية نثر الكثير من الرماد في العيون وإطلاق المزيد من دخان البنادق، للتغطية على الحادث كمقدمة لمحوه من الذاكرة العامة. تبعاً لذلك تبدأ كافة السيناريوهات والاحتمالات بالورود إلى أذهان المحللين، في جلها بعيدة كثيراً عن الواقع وتشبه الغوص والسباحة في المياه العكرة شديدة الملوحة.
وبذلك، هناك حالة من عدم التوافق على فكرة الدولة الجامعة لكل الانتماءات الفكرية في دول مغاربية. وقد تأثر في بعضها مؤشر الولاء إلى الدولة بعد حدوث أعمال إرهابية قام بها متشددون ينتمون لتيارات دينية راديكالية سبقتها اغتيالات سياسية في تونس، وتلتها حرب في ليبيا بين أطراف مختلفة الانتماءات السياسية والأيديولوجية.
دكتور القانون العام ونائب رئيس اتحاد الاكاديميين العرب
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان