“وكيف لا أرغب انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن وبث فوائد العلوم فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه”. بهذه العبارة عميقة المعاني أجاب على مبارك على دهشة ، أدهم باشا أحد قادة الجيش المصري في عهد الخديوي سعيد ،عندما طلب منه تعيين معلمين لمحو أمية الجنود وضباط الصف المصريين وتعليمهم القراءة والكتابة. فعرض ان يشارك بنفسه في هذه المهمة رغم انه تولي من قبل نظارة ديوان المدارس ( وزير التعليم ). ونجح في مهمته وعلم الجنود القراءة مستخدما الرسم بالعصا على الرمال والكتابة بالفحم على البلاط.
لم يستنكف هذا الرجل الوطني المخلص أن يخدم وطنه بتقلد وظيفة بسيطة بعد ان شغل من قبل منصب وزيرا للمعارف. ورغم أنه تعرض للظلم وبحسب موسوعة ويكيبيديا :”تقلب في عدة وظائف مدنية، ولا يكاد يستقر في وظيفة حتى يفاجأ بقرار الفصل والإبعاد دون سبب أو جريرة ، بسبب الوشايات”. وفي ذلك درس كبير لكل مصري بان عليه أن يسعى لخدمة بلده وأبناء وطنه باخلاص مهما كان منصبه كبيرا أو صغيرا.
وبمناسبة بدء العام الدراسي الجديد اليوم ، وجدت أنه من الضروري ان نستعرض سيرة على باشا مبارك الملقب بـ” أبو التعليم في مصر” لعلنا نستفيد من أفكاره في إصلاح منظومة التعليم التي تعرضت خلال السنوات الأخيرة لتجارب عديدة متضاربة .
ولد على مبارك عام 1823 في قرية برنبال الجديدة مركز دكرنس محافظة الدقهلية وتلقى تعليمه الاول في كتاب القرية وظهرت عليه علامات النبوغ مبكرا وواصل تعليمه حتى تخرج في مدرسة المهندس خانة بتفوق عام 1844 م مما أهله لبعثة دراسية في فرنسا ضمت 4 من الأمراء اثنين من أبناء محمد على، واثنين من أحفاده، أحدهما كان إسماعيل بك إبراهيم ( الخديوي إسماعيل) ولذا عرفت هذه البعثة باسم بعثة الأنجال.
وبعد عودة على مبارك من البعثة تقلدعدة مناصب وشغل في عهد الخديوي اسماعيل ( زميله في البعثة ) مواقع قيادية حيث عينه ناظرا لديوان المدارس، وناظرًا على القناطر الخيرية، وناظرا لديوان الأشغال العمومية، وإدارة السكك الحديدية ونظارة عموم الأوقاف.
ويقول حسين فوزي النجار في كتابه ( علي مبارك أيو التعليم ) أنه أصدر لائحة لإصلاح التعليم، وأعاد من خلالها ترتيب المدارس، وعين المدرسين، ورتب الدروس، واختار الكتب، واشترك في تأليف بعض الكتب المدرسية، وأنشأ لطبعها مطبعتين، وأسهم بالتدريس في بعض المواد. ومن انجازاته التعليمية والثقافية انشاء مدرسة دار العلوم (كلية دار العلوم حاليا) التي وصفها الإمام محمد عبده بأنها ” المكان التي تحيا فيه اللغة العربية ،وانشاء دار الكتب المصرية ، وإنشاء مجلة روضة المدارس، ودار الاوبرا المصرية.
ومن أشهر انجازات على مبارك الباقية منطقة وسط البلد بالقاهرة، يقول محمد عمارة في كتابه (علي مبارك مؤرخ ومهندس العمران ) ان العمائر والميادين والشوارع بمنطقة القاهرة الخديوية ستظل شاهدا على براعة علي مبارك وحسن تخطيطه.
أما كونه مؤرخا فقد تمثل ذلك بتأليف موسوعته ( الخطط التوفيقية ) المكونة من 20 جزءًا تناول مدن مصر وقراها من أقدم العصور إلى الوقت الذي اندثرت فيه أو ظلت قائمة حتى عصره، واصفًا ما بها من منشآت ومرافق.
رحم الله المفكر والمصلح على مبارك الذي توفى عام 1893عن عمر يناهز 60 عاما وترك لنا تجربة علمية وعملية رائدة ما احوجنا للاستفادة منها .