ما إن ينساب صوت الأذان عذبًا على مسامعها، حتى تستيقظ أم جلال صقر من نومها وتستعد لصلاة الفجر بصحبة زوجة جلال وبناته الثلاث، تضمهم أرجاء البيت وحدهم فقط.
ذهب جلال صقر إلى سجون الموت البطيء، وتم الحكم على سنين عمره بالضياع، وأغلق السجان الباب على تلك السنوات، ومنعها من تنفس نسيم الحرية مدى الحياة.
مر عام. عامان. ثلاثة. خمسة. واليوم. أمضى جلال ثلاثة عشر عامًا. كيف مضت هذه الأعوام؟ سؤال وقعه مؤلم على نفس جلال، ولكنه بالتأكيد سيكون أكثر إيلامًا على من تركهم جلال.
البطلة الأولى:
أولى بطلات قصتنا، الأم التي تجاوزت العقد السادس من عمرها، ولكن إذا نظرت إليها ظننتها أكملت قرنًا من الزمان، كيف لا وقد تركها الزوج منذ ثلاثين عامًا، فعاركت غوائل الدهر وحدها، فتحملت تربية خمسة أولاد وبنتين؟
جلال كان أكبرهم، فتحمل عبء المسؤولية معها، وما إن دخل السجن تاركًا خلفه ثلاث بنات وأمهن حتى زادت عذابات أم جلال وأنَّاتها. بصبر واصلت وجاهدت لتتخطى العثرات، ولكنها دفعت الضريبة، فقد أصبح جسدها موطنًا للأمراض: تعاني من السكري ومن ضعف في البصر وألم في الظهر.
تقضي أم جلال يومها بين الصلاة وسماع القرآن الكريم، وعلى رغم تعبها الشديد تقوم بزيارة أقاربها وحضور الندوات في الجامع، ولا تشعر بمرور الوقت مع حفيداتها،
فهي تروي لهن القصص والوقائع التي كان جلال بطلها، وتنقل إلى حفيداتها خِبرات ما تعلمته في هذه الحياة، فتعلمهن الصواب من الخطأ. وفي أيام الإضراب عن الطعام تذهب أم جلال إلى اعتصام أهالي الأسرى تتضامن مع ابنها، وقلبها يكتوي حرقة عليه، وعيونها تنزف اشتياقًا إليه، وهي التي لم تشاهده منذ أربع سنوات، وتدعو الله – عز وجل – ألا تطول هذه الشدة.
البطلة الثانية:
البطلة الثانية في قصتنا زوجة الأسير جلال التي تتمنى أن تجد زوجها بجوارها لتلقي عليه تحية الصباح، تركها جلال وهي في الثالثة والعشرين من عمرها مخلفًا معها ثلاث بنات، أكبرهن الخنساء 4 سنوات، وآلاء عامان، وأفنان أربعة أشهر.
وبدأت المعاناة حين أصبحت الزوجة هي الأم والأب معًا لبناتها، وعانت من غياب الأب، وكان كل يوم يمر بطول عام، والعام بألف. ‘
ماما لماذا كل صديقاتي لهن أب غيري؟ أريد أبًا’ أكثر عبارة كانت تؤلم الأم التي كانت تحتار في الإجابة وتهدئ من حزن بناتها وتخبرهن بأن أباهن بطل، وحاولت جاهدة أن تعوضهن عن حنان الأب، ومرت الأعوام.. وكبرت البنات.. وخرجن من عباءة الطفولة.. ومرت الليالي باردة قاسية على قلب الأم، فتربية البنات ليست بالأمر السهل، خاصة إذا أرادت لهن تربية إيمانية سليمة تليق بتاريخ الأب وترضي الله – عز وجل – في المقام الأول.
تقضي الزوجة وقت فراغها – بعد أن تنتهي من أعمال المنزل – في تعلم الكمبيوتر والخياطة، وذلك في مركز ‘العلم والثقافة في النصيرات’، وقد أحضرت لبناتها مؤخرًا جهاز كمبيوتر لتزداد ثقافتهن في عصر ثورة المعلومات.
وتصادق الزوجة بناتها فتعاملهن معاملة الصديقة لصديقتها، تحاورهن وتناقشهن في كل الأمور، وتتابع معهن قناة المجد الفضائية بشغف، ويعشقون إذاعة الأقصى المحلية، وتعاهد الله ثم نفسها أن تجعل من بناتها رموزًا وشموعًا لهذه الأمة.
أفنان تنتظر:
أفنان صقر تركها والدها وهي ابنة أربعة أشهر، والآن هي فتاة في الثالثة عشرة من عمرها، أي مجموع ما لاقاه الأب من عذابات وحرمان، الحزن يملأ عينيها، وتستقر فيهما دمعة جاهزة للنزول في أي وقت يشهدها فيه الحنين إلى والدها، أفنان متفوقة فقد حصلت هذا العام على معدل 94%، تذهب إلى مركز لتحفيظ القرآن في مسجد عز ،
أتمت من الحفظ حتى الآن أربعة أجزاء، تتمنى أن تصبح طبيبة، وتَعِد والدها بأنها ستجتهد أكثر وأكثر. تخبركم هذه الطفلة في السطور الأخيرة من القصة عن أحلامها: ‘بابا هل تعلم أمنيتي بالحياة؟
أن أحضنك.. نعم أحضنك.. وتضمني إلى صدرك الحنون.. لم أشاهدك منذ أربع سنوات، لا أدري أي ذنب اقترفت؟!
ولكن حتى الزيارات تزيدني ألمًا، أريدك هنا في البيت، أريد أن أنام إلى جوارك.. وحين أغفو تغطيني بيدك الرقيقة..
أتمنى أن أتناول فطوري معك وأحدثك عن طفولتي وعن أحلامي، وعن آثار الشقاوة المرسومة على وجهي، وأريد أن ألعب معك وأذهب بك إلى غرفتي حيث عرائسي التي تحفظ أحلامي، عرائسي التي حدثتها عنك وبكت معي كثيرًا، أبي شوقي وحنيني إليك لا يقدر بكلمات، ولا يوصف بعبارات، أحبك أبي..
وأدعو في كل صلاة أن تكتمل حياتي بك’. بالطبع هناك المزيد من الحديث الذي تود أفنان إرساله إلى أبيها، ولكن دموع الحنين غلبتها، فدخلت في نوبة لا انتهاء لها من البكاء.
عائلة حياتها تكرار لتفاصيل يوم واحد، يوم يمر ببطء وبرودة، وهذا اليوم ينطبق على الكثير من العائلات التي أجلت أحلامها ودفنت آمالها.
خاتمة
إن الحقيقة التي ينبغي التّأكيد عليها هنا، هي أن المُشكلات الاجتماعيّة ليست متغيرًا بنائيًا، أو حقيقة موضوعيّة ولكنها ظروف أو حالات تُصبح في ظلها سلوكيات اجتماعيّة أو مواقف معينة معروفة وموصومة أو ” مدموغة ” بأنها مشكلات اجتماعيّة.
والركيزة الأساسيّة لحدوث مثل هذه المُشكلات لا تَكمن فيما اقترفه المفرج عنه من جرم أدى للزج به في السجن، ولكن تكمن في الوصمة )الانحرافيّة أو الإجرامية) التي أُلصقت بكل من يدخل السجن لقضاء عقوبة سالبة للحريّة (ولو كانت قصيرة المدة ).
تلك الوصمة التي ستلحق كذلك بكل فرد من أفراد أسرته وعائلته أو من يرتبط به بعلاقة أيًا كان نمطها، كنتيجة للصورة الذهنيّة السيئة المُترسخة داخل أذهان أفراد المُجتمع عن كل من يرتبط بنمط من العلاقات مع أفراد تلك العائلة دونما أي ذنب اقترفوه.
وتعتبر الوصمة من النتائج المترتبة على الإدانة وصدور الحكم بعقوبة جنائيّة، وهي معنى رمزي داخل إطار أي مجتمع إنساني تعكس ما وصل إليه المجرمون من انحطاط خلقي وخروج عن قواعد المُجتمع ومعاييره، ومن ثم يلجأ المُجتمع إلى رد فعل يُوضح مدى امتعاضه وكراهيته لهذه السلوكيات، وذلك من خلال وصفهم بصفات وسمات تحمل بين طياتها معنى الشذوذ والعار.
فالوصمة تُشير إلى أن الفعل الرسمي والإدانة لا يُمثلان نهاية المطاف بالنسبة للمجرم إنما هناك عقوبات اجتماعيّة تظل عالقة بهذا الإنسان، وبمن يحيطون به تنعكس في دورة الحياة وتنتقل لكل جوانب حياته؛ مما يَعوق حركة التفاعل الاجتماعي بينه وبين المُجتمع الإنساني.
أن المجتمعات هي التي تحدد الانحراف بإقرار بعض القواعد، التي يعد انتهاكها انحرافًا من منظور بناء ذلك المجتمع. وأن الانحراف ليس خاصيّة للفعل الذي يرتكبه الفرد، وإنما هو مسألة تتعلق بثقافة المُجتمع وبنظرة أبنائه؛
وبمعنى آخر فإن الانحراف ليس صفة يوصف بها السلوك في ذاته، وإنما خاصيّة يخلعها المُجتمع على سلوك معين، في ضوء القيم والمعايير السائدة. لان الأحلام تلجأ إلى الرموز لتخفي الأغراض التي يحظرها المجتمع “
يُفترَض أن الوقائع التي تحدث في الأحلام تشغل وقتاً أقصر من وقائع مماثلة لها تقع في تجربة اليقظة. والحق هو أن هذا الافتراض يجعلنا نساوي بين مفهوم الزمن في إدراكنا للموضوعات الملموسة وبين مفهومه لدى تفكيرنا فيها عندما يوجد مفهومان مختلفان. فنحن لا نحتاج إلى زمن لنفكر بحادثة ما خاصة في حالة اليقظة أكثر مما نحتاج لأن نحلم بها.
لكننا، إذا قدرنا أن نقسم حالة اليقظة إلى تفكير وإلى إدراك الموضوعات الملموسة، يجب علينا أن نطبق التمييز ذاته على حالة الحلم، لأن تجربة الفكر الحالم هي تجربة الفكر المستيقظ – تجربة تنقسم، بالطريقة ذاتها، إلى مفهومين متميزين للزمن. وهكذا لا يوجد اختلاف هام بين التفكير والحلم عندما نأخذ تجربة الزمن بعين الاعتبار.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان