في قلب محافظة الجيزة، حيث يلتقي نهر النيل بتراب الأرض الخصيب، تقع مدينة الحوامدية، تلك المدينة التي تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا يمتد إلى قرون مضت. يرجع أصل تسميتها إلى نزول أبناء الأمير حماد، الذي ينحدر من سلالة سيدنا علي بن أبي طالب، إلى هذه المنطقة. ومع مرور الزمن، أصبحت تعرف بـ “الحوامدية”، نسبة إلى “الحوامدة”، أي أبناء حماد. كانت الحوامدية في بداياتها قرية صغيرة يعتمد أهلها على الزراعة والصيد، لكنها تحولت مع الوقت إلى مدينة نابضة بالحياة، تجمع بين الأصالة والحداثة. تطل الحوامدية على نهر النيل، وتحدها من الجنوب مدينة البدرشين، ومن الشمال طموه والمنوات، ومن الشرق نهر النيل، ومن الغرب ترعة المريوطية وطريق سقارة السياحي. وعلى الرغم من قربها من العاصمة القاهرة، التي تبعد عنها 18 كيلومترًا فقط، إلا أنها حافظت على طابعها الفريد، الذي يجمع بين الريف والحضر. اليوم، الحوامدية مدينة يبلغ عدد سكانها نحو 209,825 نسمة، وفقًا لتقديرات عام 2024. يعيش سكانها في أحياء متنوعة، مثل العزبة الغربية، عرب الساحة، ومنى الأمير، وقرية أم خنان التي تشتهر بتجارة الذهب. المدينة تعج بالحركة الاقتصادية، حيث تضم مصانع ضخمة مثل مصنع السكر والصناعات التكاملية، الذي يعد واحدًا من أكبر المصانع في الشرق الأوسط، ومصنع الخميرة والبيرة، الذي يعتبر من أقدم المصانع في المنطقة. هذه المصانع لا توفر فرص عمل لآلاف السكان فحسب، بل تسهم أيضًا في تشكيل الهوية الصناعية للحوامدية. لكن وراء هذا الازدهار الظاهري، تكمن قصة أخرى، قصة تحولت معها الحوامدية إلى “مدينة الديون”. ففي ظل تقاليد اجتماعية متجذرة، أصبحت المجاملات الفائقة في الأفراح والمناسبات عبئًا ثقيلًا على كاهل السكان، حتى تحول الجميع إلى مديونين، وأصبحت البيوت تحمل أعباءً مالية لا تُحتمل.
تدور أحداث القصة حول “إجلال”، امرأة في الخمسين من عمرها، تعيش في حي العزبة الشرقية. إجلال امرأة طيبة القلب، تحرص دائمًا على المشاركة في أفراح جيرانها وأقاربها. لكنها وجدت نفسها في دوامة من الديون بسبب المجاملات الفائقة التي تقدمها في كل مناسبة. ففي حفل زفاف ابنة جارتها، قدمت إجلال مبلغًا كبيرًا كـ “نقوط” (هدية مالية) بلغ 5000 جنيه، على الرغم من أنها بالكاد تستطيع تغطية مصاريفها اليومية. لم تكن إجلال وحدها في هذا المأزق. ففي الحوامدية، التي يبلغ عدد سكانها 209,825 نسمة، أصبحت المجاملات المالية في الأفراح عرفًا اجتماعيًا لا يمكن التخلي عنه. حتى أن بعض السكان، مثل “محمود”، الشاب الثلاثيني الذي يعمل موظفًا في مصنع السكر، اضطر إلى إقامة حفل زفاف مبكر لابنته الصغيرة، فقط لتجميع الأموال من الضيوف لسداد ديونه المتراكمة. لكن القصة لا تقتصر على المجاملات الاجتماعية فحسب، بل تمتد إلى المجاملات الإدارية التي أصبحت سمة بارزة في المجتمع المصري. ففي الحوامدية، كما في باقي أنحاء مصر، أصبحت الوساطة والمجاملات هي المفتاح للحصول على المناصب الإدارية. “علي”، شاب طموح من قرية أم خنان، حاصل على درجة الماجستير في الإدارة، لكنه وجد نفسه عاطلًا عن العمل لسنوات. وعندما حاول التقدم لوظيفة في مصنع السكر، اكتشف أن الوظيفة قد ذهبت إلى ابن أحد المسؤولين، رغم أنه أقل كفاءة منه. هذه الظاهرة ليست محصورة في الحوامدية، بل هي جزء من أزمة وطنية تعاني منها مصر. فالمجاملات الإدارية والوساطة أصبحت وسيلة للحصول على المناصب، مما أدى إلى تراكم الفساد الإداري. يقول “د. خالد”، عالم الاجتماع الذي يعيش في الحوامدية: “المجاملات الإدارية هي سرطان ينخر في جسد الأمة. فهي لا تقتل الكفاءة فحسب، بل تحول المؤسسات إلى هياكل فارغة، لا تقوم على الجدارة بل على العلاقات الشخصية.” في أحد فصول القصة، نتعرف على “د. منى”، عالمة في مجال التكنولوجيا الحيوية، تعمل في أحد المراكز البحثية في القاهرة. د. منى تمتلك خبرة واسعة ومعرفة عميقة في مجالها، لكنها وجدت نفسها مهمشة في العمل بسبب عدم مشاركتها في دوائر المجاملات الإدارية. تقول د. منى: “العلم الذي أمتلكه لا قيمة له في وجه المجاملات. المديرون هنا لا يهتمون بالكفاءة، بل بمن يقدم لهم الهدايا أو يدعوهم إلى الولائم.” هذا البعد العلمي يسلط الضوء على أزمة أكبر، حيث يتم إهمال الكفاءات العلمية لصالح العلاقات الشخصية. ففي الحوامدية، كما في باقي أنحاء مصر، أصبحت المجاملات هي العملة الحقيقية للحصول على المناصب، بينما يتم إهمال العلم والمعرفة. يقول د. خالد: “الدين الوطني الحقيقي ليس في المال الذي يتحصل عليه المجاملون، بل في العلم الذي يتم إهماله. هذه هي الكارثة الحقيقية.”
في قلب الحوامدية، نجد شخصيتين بارزتين هما “علاء ميهوب” و”ثابت البطل”. علاء، الذي يعمل كمحلل رياضي ولاعب سابق بالنادي الاهلي يقول الصدق في التلفاز ويغضب مشجعي النادي الاهلي منه لكنهاعاشق للرياضة، أصبح من أثرى أثرياء الحوامدية في التسعينات. كان علاء يعيش في منزل فاخر بقرية أم خنان، وكانت سيارته الفارهة تلفت الأنظار في شوارع الحوامدية. لكن ثروة علاء لم تكن نتيجة عمل شاق فحسب، بل كانت أيضًا بسبب علاقاته الواسعة مع التجار الأجانب، خاصة من دول الخليج.
أما “ثابت البطل”، فقد كان حارس مرمى شهيرًا في نادي الحوامدية المحلي ثم أنتقل إلي النادي الاهلي، وكان يعتبر رمزًا للبطولة والإصرار فقد أصيب بالسرطان ولم ينم بسريره. في التسعينات، كانت الحوامدية تشهد ظاهرة غريبة، وهي زواج فتيات القرية من اللاجئين الذين قدموا إلى مصر من دول مجاورة. كانت هذه الظاهرة تهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي للأسر، حيث كان اللاجئون يدفعون مبالغ كبيرة كمهر للعروس. لكن مع تحول السياحة الخليجية إلى دبي وتركيا، حيث يوجد المزيد من الحرية الجنسية، انحسرت هذه الظاهرة في الحوامدية.
وفاة ثابت البطل بسبب مرض مفاجئ كانت صدمة للمجتمع. فقد كان رمزًا للقوة والإصرار، وكانت وفاته بمثابة ناقوس خطر أظهر هشاشة المجتمع في مواجهة الأزمات. علاء ميهوب، الذي كان صديقًا مقربًا لثابت، قرر استخدام شهرته وثروته لمساعدة المجتمع في التغلب على الأزمات، من خلال إنشاء جمعية خيرية لدعم الأسر الفقيرة.
يوضح د. خالد أن المجاملات الفائقة في الحوامدية هي نتاج لعوامل اجتماعية ونفسية متشابكة. فمن ناحية، يعتبر المجتمع المصري، وخاصة في المدن الصغيرة مثل الحوامدية التي تبلغ مساحتها 18.68 كم²، أن المشاركة في الأفراح واجب أخلاقي، وأن تقديم مبالغ كبيرة هو تعبير عن المكانة الاجتماعية والكرم. من ناحية أخرى، تلعب الوراثة السلوكية دورًا في استمرار هذه العادة. فالأجيال الجديدة تتعلم من آبائها أن المجاملات المالية هي جزء من الهوية الاجتماعية، مما يجعلها تستمر دون تفكير في العواقب المالية. ويشير د. خالد إلى أن هذه الظاهرة تتفاقم بسبب ضعف الوعي المالي وغياب التخطيط الاقتصادي لدى الأفراد.
في نهاية الأمر، تجتمع مجموعة من سكان الحوامدية، بقيادة د. خالد وإجلال، لمناقشة كيفية الخروج من هذه الأزمة. يقترحون إنشاء جمعية تعاونية تساعد الأسر على التخطيط المالي، وتوعية الشباب بأهمية الادخار وعدم الانجراف وراء التقاليد الباهظة. كما يقترحون إحياء تقاليد قديمة، مثل تبادل الهدايا البسيطة بدلًا من المبالغ المالية الكبيرة.
تنتهي القصة بتحول تدريجي في مجتمع الحوامدية، حيث يبدأ السكان في إعادة النظر في عاداتهم وتقاليدهم. تتعلم إجلال أن الكرم الحقيقي ليس في المال، بل في المشاركة الوجدانية، ويستعيد محمود توازنه المالي بعد أن يتوقف عن الانجراف وراء الضغوط الاجتماعية. وهكذا، تتحول الحوامدية من “مدينة الديون” إلى نموذج لمجتمع يعي أهمية التوازن بين التقاليد والواقع الاقتصادي.
في زمن تتشابك فيه خيوط الإدارة مع ألوان المجاملات، تبرز مصر كمنارة تحتاج إلى استعادة لونها الزاهي بعيدًا عن ظلال الرياء. ففي عام 2023، أظهرت الإحصائيات أن 64% من المواطنين يشعرون بأن المجاملات الإدارية تعوق تقدم البلاد، مما يهدد الجهود الوطنية في البناء والتنمية. بينما نصف العمل الإداري يتأثر بتلك الممارسات غير العادلة، حيث تتجاوز الفرص الحقيقية 40% لصالح من لا يستحق.
لنتخيل خريطة مستقبلية، حيث تُسرّع الإنجازات وتُعيّن الكفاءات وفقًا لمعايير صارمة. هناك في الأفق، يمكننا رؤية إحصاءات تتحدث عن 90% من الناجحين في المهنية يُمنحون الفرص الحقيقية، بعيدًا عن الأسماء والشهادات التي لا تعبّر عن القدرات.
إن نبذ المجاملات يُمثل البوابة نحو شراكة حقيقية بين المواطن والدولة، حيث تذوب المفسدات تحت أشعة الشفافية. ففي عالم تُرفع فيه راية النزاهة، يزدهر الإبداع والفكر، ومن ثم يصبح كل واحد من 105 مليون مصري في قلب الحدث، يمثل بصمة فريدة في مسار التاريخ.
يا ليتنا نُقلب الصفحة، نُبخل بها على المجاملات ونتفرغ للبناء. لننشر شجرة الكفاءة في كافة مؤسساتنا، ونُغذي تربة الإبداع بالأفكار الجديدة، لنقطف ثمار التغيير الذي يطمح له كل فرد في هذا الوطن الجريح. فمع كل خطوة نخطوها نحو الشفافية، نزداد قربًا من تحقيق الحلم المصري، حلم الأمل والابتكار، حيث لا مكان فيه لغير الجدارة.
إحصاءات عن الحوامدية عدد السكان: 209,825 نسمة (تقدير 2024). المساحة: 18.68 كم². أشهر الأحياء: العزبة الغربية، عرب الساحة، قرية أم خنان.الاقتصاد: صناعة السكر، تجارة الذهب، الزراعة المحدودة. التعليم: العديد من المدارس والمعاهد الأزهرية. المواصلات: سكك حديدية، أتوبيسات، موقف ميكروباص. هكذا، تظل الحوامدية مدينة تحمل في طياتها قصصًا من الماضي والحاضر، وتقدم دروسًا للحياة عن التوازن بين التقاليد والواقع.