هناك لحظات تمر بنا فتغير مجرى حياتنا، لحظات ليست كغيرها، لا تقاس بالوقت لكنها تقاس بوقعها، بقدرتها على إعادة تشكيل وعينا، وكأنها توقظنا من سبات عميق، تزلزل ثوابتنا، تعيد ترتيب أولوياتنا، فندرك حينها أن ما كنا نعتبره يقينا لم يكن سوى وهم، وأن ما كنا نخشاه لم يكن إلا بابا نحو النجاة.
لحظة الإدراك هي نقطة تحول ميلاد جديد، انكشاف للحقيقة التي كانت تحيط بنا لكننا لم نكن نراها.
تأتي فجأة كالضوء الخاطف السريع، كوميض برق يمزق ظلمة الليل، فتبدد العتمة التي كنا نسير فيها على غير هدى، وتكشف لنا الطريق الذي غفلنا عنه طويلا.
حينها نبصر الحقيقة بوضوح لم نعهده من قبل، فتنكشف لنا الوجوه على حقيقتها، ونميز الصادق من المتلون، وندرك أن الأبواب التي أُغلقت لم تكن إلا رحمة، وأن القلوب التي ابتعدت لم تكن لنا منذ البداية، بل كنا نحن من أوهمنا أنفسنا بقربها.
هي اللحظة التي تدرك فيها أن الصمت لم يكن ضعفا، بل حكمة، وأن البعد لم يكن خسارة، بل حماية، وأن التجاهل لم يكن هروبا، بل إنقاذا للذات.
تدرك أن ليس كل ما تمنيناه كان خيرا، وأن الله يدبر الأمور بعلمه وحكمته، وأنه لو كشف لنا الغيب، لاخترنا الواقع كما هو، بكل ما فيه من كسر وخذلان وأمل ونهوض.
لحظة الإدراك قد تأتي بعد تجربة قاسية، بعد صدمة، بعد خذلان ممن حسبناهم الأوفياء، بعد خيبة أمل في حلم حسبناه يقينا.
لكنها تأتي لتكشف لنا أن الألم لم يكن إلا درسا، وأن الفقد لم يكن إلا مساحة خلقت لاستقبال ما هو أنقى وأصدق.
وحين تعي ذلك، تدرك أنك لم تخسر شيئا، بل ربحت نفسك، ربحت وعيا جديدا، ربحت قلبا أنضجه الألم فلم يعد يتعلق إلا بما يستحق، وعقلا بات أكثر حكمة فلا يمنح الثقة لمن لا يستحقها، وروحا صارت أكثر نقاء، لا تثقلها العلاقات المسمومة، ولا ترهقها التفاصيل الزائفة.
إنها لحظة، لكنها لحظة تعيد تشكيل كل شيء، لحظة تختصر أعواما من التجارب والألم، توقظ العقل من غفوته، وتزلزل القلب بعواصف الوعي، وتنير البصيرة بنور لم يكن ليراه إلا من استحقه.
في تلك اللحظة، تنظر إلى الوراء، لا بحسرة أو ندم، بل بامتنان لذاتك، لأنك أدركت الحقيقة التي كانت غائبة عنك، وأدركت في اللحظة التي كانت كفيلة بتغيير كل شيء، لحظة منحتك القوة لتكمل، ولتكون أفضل مما كنت.